بأى ذنب قتلوا

إبراهيم الهضيبى
إبراهيم الهضيبى

آخر تحديث: الجمعة 21 ديسمبر 2012 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

الرئيس التونسى المنصف المرزوقى قال فى ندوة أقيمت بالقاهرة يوليو الماضى إن «المسئولية الأهم للساسة فى هذا الظرف الانتقالى هى تقليل كلفة التغيير، وتحقيقه بأقل قدر ممكن من التضحيات والدماء»، ويبدو فشل الساسة المصريين على هذا الصعيد بالغا، بل يبدو اهتمامهم بدماء البسطاء من المصريين محدودا، واستعدادهم لبذلها فى إطار خصوماتهم كبيرا.

 

••• 

 

كانت مليونية 18 نوفمبر 2011 موجهة ضد ما عرف بوثيقة السلمى، التى كانت تؤسس ــ عن طريق المادتين 9 و10 منها ــ لوضع دستورى شاذ يبقى المؤسسة العسكرية بعيدة عن السيادة المدنية، ويؤسس مجلسا للدفاع الوطنى يحتكر مناقشة كل ما يتعلق بالمؤسسة العسكرية، وقد أعقب المليونية اعتصام عشرات النشطاء مطالبين بسحب الوثيقة، فلما اعتدت عليهم قوات الأمن تداعى الآلاف لنصرتهم، وسقط عشرات الشهداء ومئات الجرحى فى مواجهات محمد محمود.

 

وخلال الأشهر القليلة اللاحقة لتلك المواجهات، قتل عشرات المصريين تحت الحكم العسكرى، فى مجلس الوزراء، وبورسعيد، ومحمد محمود 2، واستمرت ملاحقة المدنيين بالمحاكم العسكرية، ثم قام الرئيس المنتخب بإزاحة قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولاقى ذلك تأييدا واسعا من أنصار الرئيس وخصومه باعتباره إنهاء لحكم العسكر.

 

غير أن المسودة النهائية للدستور خرجت ــ بموافقة نفس القوى السياسية الداعية لمليونية رفض وثيقة السلمى ــ لتوجد ذات الوضع الشاذ للمؤسسة العسكرية، وتؤكد خروجها عن نطاق السيادة المدنية، بجعل الوزير من ضباط الجيش (مادة 195)، وبقصر حق مناقشة ميزانية القوات المسلحة (بما فيها ميزانية الأنشطة الاقتصادية غير المتعلقة بالأمور العسكرية) على مجلس الدفاع الوطنى، الذى يضم فى عضويته ثلاثة منتخبين من بين خمسة عشر عضوا، منهم سبعة من العسكريين ورئيس المخابرات، (مادة 197).

 

والترويج لدستور يحوى هذه المواد من قبل القوى التى دعت قبل سنة لمليونية 18 نوفمبر يطرح تساؤلات حول أسباب الاعتراض على الوثيقة فى أول الأمر، وعن استغلال الدماء التى سالت من أجل إسقاط حكم العسكر، من قبل من أدان المعتصمين بعدما طالبهم بالتظاهر، ليحقق مقصدا غير الذى سالت دماؤهم لأجله.

 

•••

 

أثار الإعلان الدستورى الصادر عن الرئيس فى 22 نوفمبر الماضى الكثير من الجدل، أولا لأنه صدر بإرادة منفردة من الرئيس، وثانيا لأنه عطل مراقبة القضاء على قرارات الرئيس (مادة 2)، وثالثا لأنه منحه صلاحيات غير محدودة (مادة 6)، على نحو يعنى ــ عند إضافة السلطتين التشريعية والتنفيذية اللتين اجتمعتا للرئيس ــ حيازته سلطة مطلقة، ورابعا لأنه عند إزاحته النائب العام ــ وهو الإجراء الذى أتى استجابة لمطالب الثوار ــ أعطى نفسه الحق فى اختيار البديل من غير مشاركة المجلس الأعلى للقضاء (مادة 3) على نحو تغيب معه ضمانات استقلاله، وخامسا لأن تدخله فى أزمة الجمعية التأسيسية للدستور (بتحصينها من الحل) كان منقوصا، كونه تجاهل أزمة فقدان المشروعية التى واجهتها الجمعية باستمرار الانسحابات وتعالى الاحتجاجات على بعض المواد الدستورية، سواء المتعلقة بوضع المؤسسة العسكرية، أو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أو التمكين السياسى للمواطنين وتحسين وضعهم إزاء مؤسساتهم المنتخبة ببسط سيادتهم عليها، أو غير ذلك من العيوب الجزئية الأخرى فى مشروع الدستور.

 

وأمام الاعتراضات المتزايدة على الإعلان، وإصرار الرئيس عليه، تحركت المظاهرات صوب القصر الرئاسى مطالبة الرئيس بسحبه، بينما أصر الرئيس ــ ومعه مؤيدوه ــ على أن الإعلان ضرورى، وعجلوا بالانتهاء من مشروع الدستور وطرحه للاستفتاء، ثم ــ لما ازداد الضغط ــ لجأوا للشارع، وأرسلوا تنظيماتهم للقيام بوظيفة الشرطة فى الأنظمة القمعية؛ محاولة فض الاعتصام بالقوة، فوقعت مواجهات أسفرت عن سقوط الشهداء والجرحى مرة أخرى.

 

وقد توازى مع ذلك اللجوء لخطاب طائفى يحمل الكنيسة المسئولية عن الأحداث من غير دليل ــ كما حدث فى المؤتمر الصحفى الذى عقده نائب مرشد الإخوان، وفى كلمات بعضهم على المنصات ــ وخطاب تخوينى يتهم معارضى القرار بالسعى لوأد الثورة وإعادة نظام مبارك، كما ظهر فى خطابات الرئيس، ومرشد الإخوان، والعديد من قيادات الإخوان وحزب الحرية والعدالة.

 

وأمام تصاعد الضغط، تراجع الرئيس عن المادتين 2، 6 من الإعلان، ثم تراجع عنه بالكامل مع بقاء أثره (وهو استبدال النائب العام)، ثم قدم النائب العام الجديد استقالته ليتم اختيار نائب عام جديد بمشاركة المجلس الأعلى للقضاء (وهى كلها تراجعات محمودة لكنها متأخرة جدا)، وحتى مسودة الدستور ــ التى حصن الإعلان الجمعية التأسيسية التى تكتبه، وعجل بإرسال مسودته للاستفتاء ــ لم تقو الأطراف الموجودة فى السلطة على الدفاع عنه، وضعفت حجتهم فى الدفاع عن مواده، فلجأوا للدفاع عن مجمل المواد مع الإقرار بوجود بعض العيوب، ثم وعدوا بإصلاح ما فيه من أخطاء ومشكلات بعد إقراره! (رغم وعد الرئيس السابق بأن يطرح المسودة للحوار المجتمعى بعد انتهاء الجمعية من عملها، وقبل طرحه للاستفتاء).

 

هذا التراجع يطرح أسئلة جادة عن المسئولية عن الدماء التى سالت لغير سبب، (إذ أظهر تطور الأحداث أن قرارات الرئيس كانت خاطئة، ولم تكن ضرورية)، كما يطرح أسئلة لا تقل جدية عن مستقبل السلم الاجتماعى فى ظل اللجوء للشحن الطائفى لتمرير مواقف سياسية لا علاقة لها بالمسألة الطائفية، مع الغياب التام للمساءلة السياسية والقانونية عن ذلك.

 

•••

 

ليس يخفى حجم التشابه فى منهج إدارة الدولة بين الأطراف السياسية الحاكمة، والمجلس العسكرى الذى قاد المرحلة الانتقالية، فالثانى قتل المتظاهرين فى ماسبيرو ثم لجأ لخطاب طائفى مدعيا اعتداء الأقباط على الجيش ليبرر موقفه ويحفظ تماسكه، والأول أرسل أنصاره لفض اعتصام ثم اختلق بعدا طائفيا ليحقق ذات الأهداف، والثانى حاول غير مرة فض الاعتصامات بالقوة فووجه فى كل مرة بتداعى الناس لنصرة المعتصمين فيضطر للتراجع، والأول حاول نفس الشىء عن طريق أنصاره ثم اضطر للتراجع.

 

وهذا النهج فى إدارة الدولة إنما يدل على عدم الاكتراث بحياة البشر، وعلى غياب الشعور بالمسئولية الأخلاقية عند القائمين على الأمر، واستعدادهم التلاعب بحياة البسطاء، واستمرار التضحية بهم، من أجل انتصارات حزبية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved