هكذا يكبر الغضب وتولد العاصفة .. ليصنعا وطنًا من الفرح
عزة كامل
آخر تحديث:
السبت 22 يناير 2011 - 9:38 ص
بتوقيت القاهرة
آه لو قُدر لك الآن «يا بوعزيزى» أن تحيا بضع ثوانٍ أو بضع دقائق أخرى لترى كيف تحول صراخك وبكاؤك حين أشعلت النار فى نفسك إلى رعشة هزت قلب الأرض، لترى كيف تحول انتحارك إلى شرارة أخرجت المارد من ظلمات الحُفر، وأغضب شعبك الذى سرقوه ونهبوه وسقوه المر، وذلوه وزرعوا له المشانق فى كل مكان وكبلوا فمه بالحديد.
آه لو قُدر لك أن ترى كيف تمرد شعبك التونسى على إرث المشانق والمذابح والمنافى والهلاك، لترى كيف استيقظ شعبك من بؤس امتد كالهاوية من الجحيم إلى الجحيم ليهز قبة السماء الباهتة والريح الميتة ويقتلع الأيام الجهمة والحزن المقيم، خرج شعبك من مدن الحمامات والقيروان وسيدى أبوزيد وسوسة وبنزرت والصفاقس والقصريين وجميع مدن الجنوب وتونس العاصمة، آه لو قدر لك أن ترى كيف تحول الطاغية إلى فأر يرتعد ووقف يعانق خوفه ويلاطم لجة الرعب العميق بعد أن حكم قبضته وشيد قصوره وسجونه قرابة الربع قرن، صنع حكما ديكتاتوريا لصالح طغاة يمصمصون عظام الشعب التونسى ويسيطرون على الماء واليابس والعيش ويحكمون حكما بوليسيا يمنع الهواء عن الشعب التونسى وينهبون ثروات البلاد ويمارسون القمع الفكرى والإعلامى ويصادرون الحقوق والحريات ويسيطرون على الأجساد والأرواح.. والمفارقة المضحكة أن تونس صُنفت فى التقرير العالمى حول تكنولوجيات الاتصال والمعلومات الأخير ــ الصادر عن منتدى دافوس الاقتصادى العالمى ــ فى المرتبة الأولى مغاربيا وأفريقيا و39 عالميا من بين 133 دولة، إلا أن السلطات التونسية كانت تحجب المواقع الاجتماعية كاليوتيوب والفيس بوك وتويتر والدايلى موشن، ومواقع إخبارية شهيرة مثل «إيلاف» و«الجزيرة نت»، ومواقع المنظمات الحقوقية والدولية والمحلية والعديد من المدونات الفنية والثقافية وهكذا تم فرض العزلة على الشعب صوتا وصورة.
ليتك «يا بوعزيزى» شاهدته وهو يرعد ويقول: «لقد تمت مغالطتى من جانب بعض المسئولين.. وسأعطى التعليمات بخفض أسعار الخبز والحليب والسكر».. لكن الشعب التونسى المطعون فؤاده بسهام الغدر أخرج قوته الكامنة فيه، فالغاضبون والمحتجون غمغمت قلوبهم وصرخت حناجرهم ورفضت قلوبهم التى مازالت تفور بجراح ثخينة أن تنخدع بالوعود الكاذبة، رفضوا التنازلات وطالبوا برحيل الديكتاتور، الذى أوصل بشبابهم البطالة المقنعة وجعل الفجوة بين الأغنياء والفقراء تطول المحيط الأطلسى، وأطلق الفساد يرعى والفاسدون يمصون دماء الشعب التونسى. رحل الديكتاتور بدون عرش وأدوات قمع تحميه ولا سلطان يزهو به، أخذت طائرته تحلق فوق أوطان كانت بالأمس تسانده واليوم ترفض أن تستضيفه.
●●●
هل يتعظ حكامنا العرب، الذين يرفضون الإصلاح الديمقراطى والتغيير والذين لديهم قناعة عمياء بأن سلطتهم مطلقة وأن سلطانهم لا يزول وأن الشعوب ليست شريكة معهم فى الثروة وفى سلطة اتخاذ القرار، وأن أمد حكمهم يطول بتزوير الحقائق وتحطيم القيم وغسل العقول ومنع حرية التعبير والمشاركة السياسية، والمضى فى غيهم عن طريق تعظيم دور جهاز الشرطة والأدوات الأمنية والقمعية وفرض حالة الطوارئ التى تمنح السلطة التنفيذية سلطات استثنائية كاملة على عكس ما يوجبه الدستور من حيث الاعتقال والتحفظ والمحاكم العسكرية والاستثنائية وإصدار التشريعات، والهيمنة الكاملة لسلطة الدولة على النقابات العمالية والمهنية وفرض الحراسة عليها وتحكم بيروقراطى وأمنى من الوزارات المختلفة على الجمعيات الأهلية والجامعات والمؤسسات العلمية والتربوية وأجهزة الإعلام، وعدم تطبيق حقوق مواطنة متساوية بغض النظر عن الدين والعقيدة واللون والجنس، والتمسك بالسلطة مدى الحياة، وتزوير الانتخابات والاستئثار بالبرلمان من قبل حزب واحد، وتكفير أصحاب الرأى وإشعال حمم التطرف والمذهبية والقبلية ومصادرة التعددية والاجتهاد وتجويع الشعب ونهب ثرواته واعتقال الآلاف من النشطاء والحقوقيين والفقراء والزج بهم فى غياهب السجون.
سلسلة من الخطوات بدأت بانتحار «بوعزيزى» وامتلاء الشوارع والمدن بالمتظاهرين الغاضبين وإطلاق الرصاص الحى على المحتجين دونما رحمة أو شفقة، وانتهت بإقالة الحكومة والدعوى إلى انتخابات عامة. أحداث جسام لم يتوقعها أعتى المحللين السياسيين والنشطاء التونسيين. ومهما طالت عقود الحكم السلطوى فإنها لن تدوم والحماية الغربية للحكام لم تمنع يوما ثورة شعب، فالسخط والغضب يزدادان مع القمع ومع تفشى الفساد والبطالة ومصادرة الحريات، لأن الشعب عندئذ لا يمتلك شيئا يخاف عليه فقد جردوه من ثيابه ومن كرامته.
●●●
«بوعزيزى»، سلاما إليك وأنت ترقد فى قبرك الذى يتسع عليك الآن فقد تحول الشتاء المكفهر والبكاء الأخرس الضرير والبؤس الممتد فى ربوع تونس كلها إلى فرح ونور صباحى. فقد شعشعت سحب النور واندفعت هادرة، واندفع معها الشعب ضاحكا وفاتحا ذراعيه للنهار، نهار تونس الذى ضاع منذ سنوات.. الآن ابتل وجه الليل بالأنداء ورفرف وشاح الحرية وصار للصمت نبض.