تدفق الاستثمارات الخارجية.. الحلم والواقع


تامر موافي

آخر تحديث: الأحد 22 يناير 2012 - 9:05 ص بتوقيت القاهرة

ربما لا توجد جملة تتكرر على أسماعنا ليل نهار هذه الأيام أكثر من عبارة «تدفق الاستثمارات الخارجية». هذا الأمل الذى يتم تصديره إلينا بصفته الحل السحرى لكل مشاكلنا يعاود الجميع تذكيرنا بأهميته فى سياق كل نقاش حول الوضع السياسى أو الاقتصادى الراهن. فالثوار مطالبون بالهدوء حتى يسود الاستقرار والعمال مطالبون بالتوقف عن الإضرابات والاعتصامات حتى يشعر المستثمرون بالأمان وحتى يبدأ «تدفق الاستثمارات الخارجية» الموعود. على الجانب الآخر لم يفت المطالبون بتسليم المجلس العسكرى للسلطة إلى المدنيين فورا أن يوضحوا حقيقة هامة وهى أنه طالما كانت البلاد تمر بفترة انتقالية تحت حكم استثنائى فإن «تدفق الاستثمارات الخارجية» سيتأخر مما يؤخر فرص الشروع فى إنقاذ الاقتصاد المتهاوى.

 

●●●

 

«تدفق الاستثمارات الخارجية» هو هدف فى حد ذاته وهو أمل مرتجى لتحقيق كل أحلامنا فى التنمية وخلق الوظائف للملايين ونقل مصر إلى مصاف تلك النماذج المبهرة لدول كانت نامية فأخذت اليوم مكانها بين الاقتصادات الكبرى فى العالم. هذه كلها مسلمات عند من يروجونها وعند من يتلقونها منهم. ولذا فلا أحد يكلف نفسه عناء مراجعتها أو بمعنى أصح لا أحد يجرؤ على طرحها للنقاش علنا مخافة أن يتهم بالسذاجة أو الجهل. رغم أنه ليس علينا إلا أن نمد بصرنا إلى دول العالم من حولنا لنرى بوضوح الآثار الحقيقية لتدفق الاستثمارات الخارجية ونعرف على وجه التحديد أى نوع من الأحلام تنجح فى تحقيقه.

 

الصين، ورشة العالم، هى النموذج الأكثر إثارة لإعجاب الكثيرين، والأكثر جذبا للاستثمارات الخارجية. فهذه الاستثمارات مسئولة اليوم عن 60% من صادرات الصين عامة و88% من صادراتها فى قطاع التكنولوجيا والإلكترونيات بشكل خاص. هذا الوضع كانت له آثاره بالطبع على المجتمع الصينى فهو اليوم يفخر بأنه يشغل المركز الثالث عالميا من حيث عدد المليونيرات بعد الولايات المتحدة واليابان مباشرة.

 

لابد أن نتوقع إذن أن هذا النمو الهائل وهذه القدرة الضخمة على التصدير وقبل اى شىء آخر هذا التدفق الكبير للاستثمارات الخارجية قد أدى إلى خلق ملايين الوظائف الجديدة فى الصين ولكن المفاجأة التى كشف عنها تقرير إحصائى لمكتب العمل الصينى فى العام الماضى هى أن عدد الوظائف فى مجال الصناعة قد انخفض خلال الفترة الماضية. بالأرقام انخفض عدد العاملين فى قطاع التصنيع من 126.09 مليون فى عام 1996 إلى 112.63 مليون فى عام 2006! بمعنى أوضح فإن الصين بدلا من أن تخلق وظائف جديدة فى مجال الصناعة فقدت الكثير من هذه الوظائف.

 

تفسير هذا التناقض يكمن فى حقيقتين؛ الأولى أن معظم الاستثمارات المتدفقة إلى الصين تتجه إلى صناعات هى أقل فى الكثافة العمالية أما الثانية فهى أن العمال أصبح عليهم أن يعملوا أكثر. فالتقرير ذاته يذكر أن 25% من العمال يعملون بمتوسط ساعات من 41 إلى 48 ساعة فى الأسبوع بينما يعمل 35% منهم لأكثر من 48 ساعة. فى المقابل فإن أجور العمال فى الصين وفق تقارير عدة لم تزد خلال العقد الأخير مع تزايد نسب التضخم مما يعنى ارتفاع الأسعار بمعدلات كبيرة ومازال أجر العامل الصينى فى المتوسط يماثل 4% من أجر نظيره الأمريكى وأقل حتى من نظيره المكسيكى.

 

هذا التفاوت الهائل فى الأجر بين عمال الصين ونظرائهم فى الولايات المتحدة لا يبدو أنه سيستمر طويلا، ليس لأن أجور العمال فى الصين ينتظر لها أن ترتفع ولكن لأن أجور نظرائهم فى الولايات المتحدة بدأت فعلا فى الانخفاض ويتوقع لها أن تستمر فى هذا الاتجاه. ولا يبدو أن ذلك يزعج الإدارة الأمريكية الحالية بل على العكس من ذلك فمع اتجاه الأجور إلى الانخفاض تتجه الاستثمارات الخارجية أكثر وأكثر إلى صاحبة الاقتصاد الأكبر فى العالم! ودليل ذلك أن شركات صناعة السيارات الألمانية وجدت من المربح لها أن تنشئ مصانعها الجديدة فى أمريكا حيث تدفع اليوم أجورا أقل من نصف تلك التى كان يحصل عليها عمال صناعة السيارات منذ سنوات قليلة. بعض هؤلاء العمال يتم توريدهم من خلال شركات للتوظيف بعقود مؤقتة وبدون مزايا وظيفية مما يخفض تكلفة الوظائف أكثر وأكثر.

 

●●●

 

إن النهر المتدفق للاستثمارات الخارجية الذى كانت الولايات المتحدة وما تزال أحد منابعه الأساسية عاد ليصب فى بلد المنبع نفسه! ولكنه فى دورته حول العالم وحيث حمل معه انتقال الصناعات الأمريكية الكبرى إلى أوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا وكوريا الجنوبية والصين قد حقق أهدافا هامة، فهو قد جرد العمال الأمريكيون أنفسهم من وظائفهم التى كانت توفر لهم الانتقال إلى مستوى معيشة الطبقة الوسطى وكسر مقاومة اتحادات العمال التى كانت لها قوة تكافئ ما للحزبين الكبيرين فى أمريكا، واليوم لا يجد إتحاد عمال صناعة السيارات فى أمريكا غضاضة فى أن يوقع تعاقدات جماعية مع شركات أوروبية وأمريكية تعيد أجور أعضائه إلى مستويات أقل مما حصل عليه أجدادهم مع التنازل عن كثير من المزايا الوظيفية وإغضاء الطرف عن استخدام هذه الشركات لعمالة مؤقتة دون تثبيت!

 

●●●

 

بقى أن نشير إلى عامل مشترك آخر بين عمال الصين وأمريكا فكلا الفريقين يشكو من تزايد وطأة العمل إلى الحد الذى يدفع عمال الصين إلى الانتحار بأعداد ملفتة، أحد أكبر الشركات العاملة فى الصين وهى فوكسكون الشريك الأهم لكبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية مثل أبل وهيوليت باكارد والتى تدير مجمع مصانع ضخم يضم 400 ألف عامل اضطرت إلى إقامة شبكات من الصلب بين مبانى مجمعها لتحول دون عمالها من الانتحار بالقفز من أعلى هذه المبانى. وفى أمريكا يغادر معظم العمال الجدد مصانع السيارات التى يعملون بها لعدم قدرتهم على تحمل أحمال العمل الهائلة وتعنت الإدارة.

 

ما ينظر إليه فى داخل بلد ما على أنه «تدفق الاستثمارات الخارجية» هو جزء من ظاهرة عالمية خلقها تحرير حركة رءوس الأموال وتحرير التجارة مما سمح لرءوس الأموال أن تذهب إلى حيث يمكنها إنتاج السلع والخدمات بأقل تكلفة ممكنة ثم تبيعها حيث تحصل على أعلى سعر ممكن وتحصد بذلك أعلى ربحية ممكنة. هذا النهر المتدفق للاستثمارات حول العالم لا يخلق على ضفتيه مزيدا من الوظائف وإنما هو يقضى على الوظائف الآمنة الأعلى أجرا ويخلق عددا أقل من الوظائف غير الآمنة والأدنى فى الأجر.

 

ليس هذا فى الواقع أمرا جديدا عن الخبرة المصرية فتاريخ الخصخصة الذى دخل من خلالها الكثير من رءوس الأموال الأجنبية شهد تشريدا للعمال أكثر مما شهد خلقا لوظائف جديدة وهو حين خلق هذه الوظائف كانت دائما أدنى أجرا وأقل أمانا وخارج إطار مظلة النقابات والاتحادات العمالية.

 

صحيح أن تدفق الاستثمارات حول العالم قد خلق نموا فى الناتج المحلى لدول كثيرة ولكن هذا النمو ذهب كله وربما أكثر منه إلى جيوب الشركاء المحليين من أمثال مليونيرات الصين الجدد ونظرائهم فى مصر وغيرها أما بالنسبة للغالبية العظمى من البشر فلم يحمل هذا التدفق للاستثمارات تحقيقا لأحلامهم بل تجسيدا لأسوأ كوابيسهم على الإطلاق.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved