الأزمة الاقتصادية.. بدون تعقيد
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 22 يناير 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
فجأة بدأ موسم الاهتمام بالاقتصاد. فما إن أطل علينا العام الجديد، وانتهت معركة الدستور (ولو إلى حين)، وبدأت الاستعدادات لانتخابات مجلس الشعب، حتى تحولت الصحف وبرامج التلفزيون والمناظرات الفضائية من الجدل حول الشريعة والهوية وصلاحيات الرئيس فى الدستور، إلى الاحتياطى وسعر الصرف وعجز الموازنة. الاهتمام بالاقتصاد ظاهرة إيجابية لأننا بالفعل فى حاجة ماسة لفهم طبيعة وحجم الأزمة لكى نحسن التعامل معها، كما أنه سوف يدفع بالأحزاب المتنافسة لطرح رؤى وحلول لمشكلات المواطنين بعد إهمال طويل. ولكن إن كان الاهتمام بالاقتصاد ظاهرة صحية، فإن الحوار بشأنه يعانى من مشكلة رئيسية تجعله يدور فى حلقة مفرغة وتمنعه من الوصول إلى نتائج مفيدة، وهى الخلط المستمر بين المرض وبين أعراضه وبين أسبابه الأصلية.
الاهتمام المبالغ فيه بسعر صرف الجنيه وبمؤشر البورصة وبحجم ما تبقى من الاحتياطى النقدى يعبر عن اعتقاد سائد فى الرأى العام بأن هذه هى المشكلات التى تواجه الاقتصاد المصرى بينما الحقيقة أنها ليست سوى أعراض ونتائج طبيعية للمرض الذى يعانى منه، وهو انخفاض معدل النشاط الاقتصادى بشكل عام (الصناعة، التجارة، التشييد، الاستهلاك)، والارتفاع فى البطالة نتيجة لذلك، وانخفاض العائد من السياحة، والانحسار الشديد للاستثمار الأجنبى الجديد. سعر الجنيه ومؤشر البورصة ليسا هما المشكلة بل يعبران عنها ويعكسان مدى عمقها. وبسبب هذا الخلط بين المرض وبين أعراضه، نتصور أن الحل هو ورود أموال من قطر أو من تركيا أو من صندوق النقد الدولى، بينما الحقيقة أن هذه لن تكون إلا مسكنات مؤقتة ولن توفر إلا سيولة تساعدنا على إطالة مدة مقاومة المرض، ما لم نتعامل مع أسبابه الأصلية.
أما أسباب المرض (وبالتالى وسائل علاجه) فليست فى مجال الاقتصاد أصلا، بل فى عالم السياسة. فانحسار النشاط الاقتصادى سببه هو تصاعد حالة الاحتقان السياسى التى نمر بها منذ بداية المرحلة الانتقالية خاصة مع احتدام معركة الدستور فى الأشهر القليلة الماضية، وكذلك تصرفات وقرارات الرئيس وحزبه وجماعته التى لا تهدف إلا إلى تثبيت قبضة الإخوان المسلمين على الحكم وعلى مؤسسات الدولة. ولذلك فالعلاج على المدى القصير لن يكون عن طريق وضع خطط سنوية وخمسية، ولا إطلاق مشروعات قومية عملاقة، ولا استحداث صكوك وأدوات مالية جديدة، وبالتأكيد ليس عن طريق تغيير الوزراء كل بضعة أسابيع. الحل المطلوب فورا هو إعادة الأمن للشوارع، وتطبيق القانون بقدر من الجدية، والتوصل لتوافق على برنامج اقتصادى للإصلاحات العاجلة المطلوبة، وإعادة الثقة بين القوى السياسية الرئيسية يحد من انقسام المجتمع ويصحح من الخلل البالغ الذى أصاب التجربة الديمقراطية المصرية نتيجة تمرير دستور هزيل. أما إذا استمر الحزب الحاكم فى اعتقاده بإمكان حل الأزمة الاقتصادية فى ظل الاحتقان السياسى الحالى والانقسام السائد فى المجتمع فإن النتيجة ستكون المزيد من التراجع فى المؤشرات الاقتصادية، وهو أمر لم يعد من الممكن احتماله.
هذا على المدى القصير. أما على المدى الأطول، فإن الخلط بين المرض والعرض والأسباب مرة أخرى يجعلنا نتصور أن لكل مشكلة حلا بسيطا وسهلا: العدالة الاجتماعية تتحقق بتطبيق حد أقصى للأجور، وعجز الموازنة يتم إصلاحه بتوفير بعض النفقات الحكومية، ونقص السيولة عن طريق استرداد مبالغ هزيلة من الخارج، والقضاء على الفساد من خلال نظام «من أين لك هذا؟». للأسف أن هذه كلها ليست حلول حقيقية على المدى الطويل، بل إجراءات شعبية وإعلامية، تصلح للدخول فى معارك انتخابية وتساعد على التألق فى المناظرات التلفزيونية. لا بديل ــ على المدى الأطول ــ من إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى حتى يتحقق التوازن بين احتياجات النمو الاقتصادى واحتياجات العدالة الاجتماعية التى ينشدها الناس ولا يجدون منها حتى الآن سوى شعارات فضفاضة. هناك حاجة ماسة لحوار قومى اقتصادى، يكون هدفه إعادة توجيه أولويات الإنفاق العام، وإصلاح النظام الضريبى بشكل جذرى، وتشجيع الصناعات الصغيرة، وإتاحة الائتمان لصغار المستثمرين، وتوفير الموارد لإحداث طفرة فى التعليم والرعاية الصحية، وإعادة صياغة علاقات العمل بما يحقق توازنا بين حقوق العاملين وأرباب العمل، وإعطاء المواطنين الثقة أن أموالهم وممتلكاتهم مصونة ماداموا ملتزمين بعقد اجتماعى جديد. ولكن للأسف أنه حتى الآن لم تطرح الحكومة علينا تصورا شاملا يحقق تغييرا جذريا فى طبيعة الاقتصاد المصرى وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام.
خلال الأسابيع الماضية، استمعت أكثر من مرة إلى وزير التخطيط، يستعرض مؤشرات الأزمة الاقتصادية التى نمر بها ويعرض ملامح من البرنامج الاقتصادى للحكومة. وتشاء الصدف أنه فى كل مرة يكون هناك إما اشتباك بين ألتراس الأهلى وبورسعيد، أو محاصرة كنيسة فى الصعيد، أو حرق محكمة فى الإسكندرية، أو اقتحام لأحد السجون، فأتساءل عن جدوى ما يبذله الوزير من جهد وما يقوم بتحضيره من أرقام وبيانات فى ظل انقسام المجتمع وعدم استعداده للوقوف وراء سياسات حكومية لا تعبر عن اتفاق سياسى وقبول عام. كيف يمكن الاعتقاد بأن الحكومة تقدر على رفع الضرائب، أو تغيير مسار دعم الطاقة، أو تخفيض عجز الموازنة إن لم تكن قادرة على إدارة حوار حقيقى بين القوى السياسية وتقديم رؤية جامعة يقتنع بها الناس ويقفون وراءها؟
الوضع الاقتصادى الحالى بالغ الخطورة، ولكنه أيضا قابل للحل. ولكن هذا الحل لن يأتى من خبراء الاقتصاد والمال، بل من أهل السياسة. إدارة البلد لن تكون ممكنة فى ظل الاحتقان الحالى، والتقدم بمصر لن يحدث ما لم نجد طريقا جديدا يجتمع عليه الناس وتتفق عليه الأحزاب وتستلهم منه الجماهير طاقة جديدة تسمح لها بالتضحية من أجل تحقيق أهداف محددة فى المستقبل.
فهل ننجح فى التوافق فى مجال الاقتصاد بعدما فشلنا فى مجال السياسة؟