ترامب والغموض المدمر
ناصيف حتى
آخر تحديث:
الثلاثاء 22 يناير 2019 - 1:35 ص
بتوقيت القاهرة
فى سياق أسلوب الإعلانات والتصريحات الصادمة الذى يشكل سمة أساسية فى دبلوماسية الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، يأتى إعلانه بالانسحاب العسكرى من سوريا دون تحديد أى إطار زمنى أو خريطة طريق لذلك، ليحدث «إرباكا وعتبا وغضبا» عند الحلفاء والأصدقاء وفى الإدارة الأمريكية، حيث استقال وزير الدفاع جيمس ماتيس. لا تشاور أو تنسيق مسبق مع أحد، وهو ما يندرج فى سياسة الأحادية الحادة التى يقول بها ترامب، الأحادية المحررة من أى قيود أو التزامات تجاه الحلفاء والشركاء الذين عليهم التكيف مع هذه الأحادية كمعطى أساسى فى السياسة الخارجية الأمريكية.
الكل يدرك أن هذا الانسحاب لن يحصل بين ليلة وضحاها. ويتحرك «الاطفائيان» جون بولتون ومايك بومبيو فى دبلوماسية احتواء حرائق ترامب. بولتون، مستشار الأمن القومى، يشرح مطمئنا فى إسرائيل أن هناك شرطين يجب استيفاؤهما لتحقيق الانسحاب: أولهما، هزيمة كلية لداعش وشل قدرتها لأن تشكل تهديدا «جديدا»، وثانيهما، توفير بعض الضمانات من تركيا بالنسبة للقوات الكردية فى شمال شرق سوريا، الأمر الذى أثار «إرباكا وتوترا» ممسوكا من الحليف الاستراتيجى التركى كما دلت على ذلك زيارة بولتون إلى أنقرة. وبالطبع يضيف بولتون فى إسرائيل شرطا ثالثا لتحقيق الانسحاب وهو ضمان أمن إسرائيل وأصدقاء آخرين فى المنطقة.
وزير الخارجية بومبيو قام بجولته فى المنطقة من مصر تحت عنوان التحضير لقمة وارسو لإطلاق التحالف الاستراتيجى للشرق الأوسط فى إطار استراتيجية المواجهة الأمريكية العربية مع إيران. والجدير بالذكر أن موقع مصر الاستراتيجى ودورها المحورى فى المنطقة هو العنصر الوحيد الذى يشكل توافقا بين مختلف الإدارات الأمريكية، من إدارة بوش الابن إلى إدارة أوباما إلى إدارة ترامب، حيث «خطب» بومبيو حول الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة.
والجدير بالذكر أن كوندوليزا رايس كانت قد أعلنت فى خطاب فى القاهرة، فى يونيو 2005، عن قرار الإدارة الأمريكية فى «تسويق» الديمقراطية فى الشرق الأوسط و«تخفيف» تلك الرسالة من حيث الاعتراف بوجود أشكال مختلفة من الديمقراطية، فيما الرئيس أوباما قد ألقى خطابا فى يونيو 2009 تحت عنوان بداية جديدة مع العالم الإسلامى لبناء جسور تفاهم على قواعد مختلفة عن تلك التى كانت سائدة فى السياسة الأمريكية.
بومبيو جاء فى خطابه ليرد على أطروحات أوباما بغية نقضها وذلك من خلال التأكيد على مخاطر الإرهاب الإسلامى الراديكالى والتيارات الإسلامية ورفض سياسة التهدئة أو المهادنة مع إيران وإعلان الانتهاء من سياسة جلد الذات التى اتهم إدارة أوباما بممارستها. بومبيو أكد أيضا «على أن واشنطن لن تنسحب من سوريا قبل دحر الإرهاب مكررا» ما يقوله ترامب بأن المطلوب بذل المزيد من الجهود من طرف الشركاء. بومبيو يحدد مسرح المواجهة مع إيران فى سوريا أساسا «لإخراجها من هناك، وهو مسرح مواجهة كما يقول يضم أيضا العراق ولبنان».
بالطبع القضية الفلسطينية لم تحظ بأكثر من جملة فى الخطاب، وقد تكون تركت لجاريد كوشنر الذى يتولى هذا الأمر، ويدل ذلك على التهميش المتعدد الأسباب والمصادر بالطبع الذى أصاب القضية الفلسطينية على صعيد الجدول الفعلى وليس الخطابى للأولويات الإقليمية والدولية فى المنطقة.
خلاصة الأمر أن الانسحاب الأمريكى من سوريا قد تقرر، وقرار التنفيذ مفتوح فى الزمان، وقد ترك انعكاسات على الحلفاء والخصوم، فيما يحاول الاطفائيان بولتون وبومبيو محاصرة تداعياته واحتوائها.
وللتذكير، كان هنرى كيسنجر يصف بالغموض البناء تلك السياسات التى لم تكن واضحة المعالم عن قصد بغية تحقيق الأهداف التى تحملها. اليوم، كلام ترامب يمكن وصفه بالغموض المدمر، إذ يزيد من المخاوف والارتباك عند كل من الحلفاء والأصدقاء، كما يشعر بعض الخصوم بأنه يخدم أهدافهم عن غير قصد.
ما يمكن استنتاجه أننا أمام مزيد من خلط الأوراق بسبب هذه التصريحات، وبشكل خاص بسبب التغييرات التى حصلت على الأرض فى بعض الصراعات وتحديدا فى سوريا، والحاملة لانعكاسات مختلفة لم تتبلور ولم تستقر بعد. الأكيد أن الصراع سيشتد وستزداد عملية خلط الأوراق وتقاطع المصالح بين الحلفاء والخصوم نحو مزيد من الفوضى الإقليمية والنزاعات المختلفة الأشكال والعناوين والمسببات. هكذا يدفع ترامب بالشرق الأوسط والعالم نحو سياسة يحكمها منطق الغموض المدمر.