عملية حرف المبادئ والثقافة
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 22 يناير 2020 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
هناك إشكالية ثقافية سياسية عند أصحاب القرار، سواء بالأصالة أو بالوكالة، فى أنظمة الحكم العربية. إذ لا يمكن تفسير التلاعب والكذب والتردد الذى يمارسه هؤلاء، بينما تجوب الشوارع الجماهير الشعبية الغاضبة أسبوعا بعد أسبوع دون أن ترى فى الأفق حلا مُرضيا يلبى مطالبها وشعاراتها الأساسية... إذ لا يمكن تفسير ذلك إلا بوجود تلك الإشكالية الثقافية التى تهيمن على عقول وضمائر أصحاب القرار.
فأصحاب القرار لا يريدون أن ينسوا الدرس الأساسى الذى غرسه الاستعمار فى عقولهم قبل رحيله منذ عشرات العقود، والقاضى ببناء دولة قمعية من خلال مؤسسات غير شرعية، تحكم سكانا رعايا من البشر وليس من المواطنين. ومن أجل أن تحكم وتدير بتلك الصورة القمعية عليها أن تحرف مفاهيم وتروجها على أوسع نطاق وبشتى الوسائل.
من أبرز التحريفات كانت القراءة الخاطئة لمعانى إطاعة ولى الأمر، التى أسس لها بعض علماء السلاطين فى الماضى والحاضر ورفعوها كحكمة إلهية فى وجه كل من حاول قراءتها بصورة مختلفة.
ولقد بَنَت تلك القراءة ــ عبر القرون ــ عقلية جمعية تضج بالدعاء والشكر لمكرمات ولى الأمر وتقنع نفسها بالصبر على ارتكابه الأخطاء والخطايا تجاه عموم رعاياه. ثم وجدت فى بعض الفلسفات الغربية، التى تتحدث عن الضرورات الطبيعية فى تكوين البشر وعن إرادة القوة وشعارات البقاء للأقوى، مجالا آخر لتحريفات فكرية حديثة تضيفها للتحريفات الدينية الفقهية.
من منطلقات التحريفات الفكرية والدينية تلك لا يستغرب الإنسان أن تكون اقتناعات أصحاب القرار تقبل مقولات: من مثل أنه لا توجد مصادر رزق معيشية كافية للجميع، وبالتالى ضرورة الصبر من قبل المشتكين على تواجد الحرمان والفروقات فى مجتمعاتهم، أو من مثل أن منطق الحياة يقوم على التزاحم والتنافس، ومن ثم صعود البعض وهبوط البعض الآخر، أو من مثل أن للقانون قدسية مجتمعية حتى لو كان قانونا تعسُفيا غير عادل، أو من مثل أن فقر الفقراء هو بسبب كسلهم ومحدودية طموحاتهم وليس بسبب ظروفهم الحياتية وحرمانهم من الفرص المتساوية، أو من مثل التبنى الكامل الأعمى لشعارات وقيم وأخلاق وتابعية الرأسمالية النيوليبرالية العولمية التى لا تقبل إلا بقيم حرية الأسواق، وتنامى ثروة الأغنياء، والاستهلاك النهم المجنون الذى يؤدى إلى تراكم الديون على الطبقة الفقيرة لصالح مؤسسات الغنى الفاحش.
عندما تترسخ تلك المقولات فى أذهان أصحاب القرار، لتصبح ثقافة تضبط قراراتهم وسلوكياتهم، وتتناقلها بقبول صامت الأوساط القبلية والعسكرية والأمنية الاستخباراتية والحزبية الفاشستية وكثير من مؤسسات الفقه المذهبى، وتباركها قوى ومؤسسات الاستعمار الناهب النهم الفاقد لقيم الضمير والأخلاق... تنقلب تلك الثقافة السياسية إلى تكوين طبيعى مقبول لشخصية الكثيرين من أصحاب القرار.
ولذا ليس بمستغرب أن نرى ذلك التلكُؤ فى اتخاذ أى قرارات أو فى الإقدام على أية خطوات لإرضاء ملايين الجموع الصاخبة الغاضبة المنهكة اليائسة التى تجوب الآن شوارع مدن بعض بلاد العرب، والتى قد تجوب شوارع مدن أخرى فى المستقبل القريب.
من هنا المسرحيات الهزلية اليومية بشأن تسمية رئيس مقبول للحكومة أو تعديلات جذرية فى القوانين أو إعداد لانتخابات جديدة نزيهة تنقل المطالب الجماهيرية من شعارات إلى واقع فى المستقبل المنظور.
من هنا ندور فى حلقة مفرغة بين بلادات أنظمة الحكم ويأس الملايين فى الشوارع.
ما يحز فى النفس أن أصحاب القرار ما عادت تحركهم أو تقلقهم مشاهد ملايين الأطفال العرب الذين لا يجدون مدارس يرتادونها، ولا مشاهد الجوع والعُرى والسكن فى الشوارع أو فى خرائب دمار الحروب والصراعات، ولا مناظر الملايين الهاربين إلى منافى العالم ومآسى الغربة. كل ما يهمهم هى التوازنات المذهبية والحزبية والعرقية وعدم المساس بالامتيازات غير العادلة. ولذلك تُؤجل القرارات أسبوعا بعد أسبوع، وتُرحل الأسماء شهرا بعد شهر، وتُعقد الاجتماعات المظهرية التى لا تنتج إلا الغبار الكلامى واللُغة الخشبية إياها التى نجحت الدولة العربية القمعية الحديثة فى جعلها خطابا يقود إلى النُعاس، ثم النوم، ثم السكون الممل البائس.
إن لم تتغير بصورة جذرية تلك الثقافة السياسية المنحرفة فإن المشهد العربى سيظلُ يدور حول نفسه وحول مستقبله الخازن لمفاجآت كارثية.