مآلات التصعيد الغربي ــ الحوثي
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 22 يناير 2024 - 6:40 م
بتوقيت القاهرة
فى تغيير لافت لقواعد الاشتباك؛ تنفذ واشنطن ولندن، منذ الثانى عشر من الشهر الحالى، سلسلة من الضربات الجوية والبحرية المشتركة ضد عشرات المواقع العسكرية الحوثية. وذلك بهدف تقويض قدرة الجماعة الموالية لإيران، على تهديد الملاحة بالبحر الأحمر. عبر إضعاف قدرتها على تخزين، إطلاق وتوجيه الأنظمة الجوية كالطائرات المسيرة، صواريخ كروز والصواريخ الباليستية، علاوة على تفكيك بنيتها العسكرية من أنظمة الرادار ومنظومات الدفاع الجوى.
ترى واشنطن ولندن ضرباتهما متوافقة مع القانون الدولى، وحق الدفاع عن النفس. وقد دعمتها هولندا، أستراليا، كندا والبحرين لوجستيا واستخباراتيا، بينما وقعت معهم ألمانيا، الدنمارك، نيوزيلندا وكوريا الجنوبية بيانا مشتركا، يؤيد الضربات وينذر باتخاذ إجراءات إضافية لتأمين التدفق الحر للملاحة بالبحر الأحمر، إذا لم يتراجع الحوثيون. وبينما أبدى الاتحاد الأوروبى استعدادا لتشكيل مهمة بحرية لحماية السفن، أعلن حلف الناتو، أن الضربات الأنجلو ــ أمريكية كانت دفاعية، وتنشد حماية حرية الملاحة بطريق الشحن البحرى الأسرع والأقل كلفة بين آسيا وأوروبا.
بعدما أعلنت تشكيل تحالف «حارس الازدهار»، الشهر الماضى، بمشاركة عشر دول، لردع انتهاكات الحوثيين؛ تحصنت جهود إدارة، بايدن، لبناء توافق عالمى، بقرار مجلس الأمن الدولى رقم 2722، الصادر فى العاشر من الشهر الحالى، والذى أدان الهجمات الحوثية على السفن منذ 19 نوفمبر الماضى. وبعدما رفعت إدارته الحوثيين من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية عام 2021، قرر، بايدن، إعادة توصيفهم «إرهابيين عالميين محددين بشكل خاص»، توطئة لمحاسبتهم على تجاوزاتهم، وتجفيف منابع دعمهم.
بموازاة انتقادها لتأخرها فى استهداف الحوثيين، طالب جمهوريون ومسئولون سابقون إدارة، بايدن، بتجاوز استراتيجية «الضربة مقابل الضربة»، واتخاذ إجراءات حاسمة لقطع حبل إيران السرى للجماعة، التى يعتبرون تهديدها للملاحة البحرية تحديا لدور واشنطن القيادى فى حماية التجارة الدولية. معربين عن أملهم فى أن تسفر الضربات الغربية عن تغيير قواعد الاشتباك مع الحوثى وطهران، استعادة الردع فى البحر الأحمر، وتعزيز مكانة الولايات المتحدة، بوصفها القطب العالمى المهيمن.
تمخضت الاضطرابات الجيوسياسية فى البحر الأحمر عن إرباك أمن الطاقة العالمى. فبينما يمر عبره 15 % من التجارة العالمية، 8% من الغاز المسال، و12% من النفط، أدى تحويل ناقلات نفط عديدة مسارها حول إفريقيا، إلى ارتفاع أسعار الخام بنسبة 4%. وبواقع ثلاثة أضعاف، قفزت تكاليف الشحن والتأمين الدوليين. الأمر الذى فاقم المخاوف بشأن تعاظم التضخم العالمى، تباطؤ حجم التجارة الدولية، ارتباك سلاسل التوريد والإمداد. وبالتزامن، تراجعت العائدات الدولارية لقناة السويس بنسبة41%، بعدما انكمش عدد السفن العابرة لها بواقع 30%، لتنخفض من 777 سفينة إلى 544. يشكك مراقبون كثر فى إمكانية ارتداع الحوثيين جراء الضربات الغربية. فلقد اكتست سمتا دفاعيا رمزيا؛ إذ اقتصرت على استهداف القدرات الهجومية ومراكز القيادة والسيطرة البحرية. فيما تم إخطار الجماعة، مسبقا، بتفاصيل الضربات، ما خولها نقل صواريخها ومسيراتها ومقاتليها، بعيدا عن المناطق المستهدفة، ما قلص خسائرها المادية والبشرية. وبينما يتطلب الردع المنشود تنفيذ هجوم برى، يتيح السيطرة الميدانية على معاقلها ومناطق سيطرتها باليمن، تتأسس الحسابات الاستراتيجية لواشنطن وحلفائها، على تلافى عسكرة البحر الأحمر، وتجنب التورط المباشر فى صراعات إقليمية.
رغم إصابتها 90 % من أهدافها، لم تجهز الضربات الغربية إلا على 25% فقط من القدرات الهجومية للحوثى. إذ احتفظت الجماعة بنحو ثلاثة أرباع قدرتها على إطلاق الصواريخ والمسيرات، التى يمكن تركيب معظمها على منصات متنقلة، بما يتيح نقلها وإخفاءها بسهولة. وبجانب استمرار الدعم الإيرانى، يتمتع الحوثيون بقدرات عسكرية هائلة. فإضافة إلى مائتى ألف مجند، استولوا على أسلحة الجيش اليمنى عقب احتلالهم صنعاء عام 2014، تم تطوير مسيرات وصواريخ باليستية متوسطة المدى، صواريخ كروز، فضلا عن منظومات تسليحية بحرية. ورغم استهداف الضربات الغربية مواقع ومستودعات عسكرية حيوية، لا يزال بحوزة الحوثيين مخزون من الذخائر والمقذوفات المنتشرة ببقاع يمنية شتى.
افتقدت الضربات الغربية ضد الحوثى التوافق الدولى. فبينما يواجه، بايدن، وسوناك، إشكاليات دستورية وقانونية، جراء تجاوزهما برلمانيهما قبل الشروع فى تنفيذها؛ أعرب جل حلفاء واشنطن بالمنطقة، عن مخاوفهم من تدحرج الاشتباكات صوب حرب إقليمية مع إيران ووكلائها. وأوروبيا، آثرت، إيطاليا، إسبانيا وفرنسا عدم المشاركة فى الضربات الأنجلو ــ أمريكية ضد الحوثيين، كما لم توقعا بيان أصدرته عشر دول، لتسويغها. وأرجع حلفاء واشنطن عزوفهم إلى توجسهم من قيادة الأخيرة أى تحركات عسكرية فى البحر الأحمر، وتخوفهم من عسكرته، على نحو يهدد الأمن والاستقرار فى منطقة حيوية وقلقة. وأعلن الاتحاد الأوروبى أنه لن يحذو حذو واشنطن، فى تصنيف حركة الحوثى، منظمة إرهابية. وبينما نأت الصين بنفسها عن الأمر، ميدانيا، كما رفضت التصويت على القرار 2722، نددت روسيا بالهجمات الأنجلو ــ ساكسونية ضد الحوثى، معتبرة إياها مناهضة للقانون الدولى، ومنبتة الصلة بحق الدفاع عن النفس.
يصر الحوثيون على تحدى واشنطن وحلفائها، متوعدينهم بدفع ثمن عدوانهم. حيث أكد مجلسهم السياسى الأعلى، أن كل المصالح الأمريكية والبريطانية صارت «أهدافا مشروعة»؛ مع مواصلة استهداف سفن إسرائيل، أو تلك المتجهة إليها، حتى توقف عدوانها، وترفع حصارها عن غزة. يوقن الحوثيون أن تعرضهم للضربات الغربية، وصمودهم أمامها، والرد عليها، إنما يعد انتصارا. حيث يعتقدون أن صراعا مفتوحا مع الولايات المتحدة وإسرائيل، دعما لفلسطين، سيخولهم إعادة التموضع سياسيا. إذ سيكسبهم دعما داخليا على حساب الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، كما يعزز دورهم بمحور المقاومة الإقليمى، الذى تقوده إيران، باعتباره فاعلا محوريا، ومؤثرا فى أمن أهم شريان ملاحى عالمى. وتروج الحوثى أن إعادة تصنيف، بايدن، لها جماعة إرهابية، إنما يأتى ردا على موقفها المساند للفلسطينيين فى مواجهة العدوان الإسرائيلى، وليس بسبب تهديدها الأمن الخليجى، حركة الملاحة بالبحر الأحمر، أو الانقلاب على سلطة شرعية فى اليمن.
تشى السوابق التاريخية باستعصاء تغيير الحوثيين سياساتهم، تحت وطأة الضغوط العسكرية. ففى عام 2016، استهدفت واشنطن مواقع للصواريخ والرادارات تابعة للجماعة، بصواريخ «كروز توماهوك»، عقب استهدافها السفن التجارية، ومهاجمتها السفينة الأمريكية «يو إس إس ماسون». غير أن الجماعة سرعان ما استوعبت الأمر، وواصلت عملياتها بالبحر الأحمر، مع مباشرة تطوير قدراتها التسليحية، مستفيدة من الدعم الإيرانى. ومن ثم، انطلقت مساعى دبلوماسية، من لدن بكين ومسقط، لإقناع طهران بحمل الحوثيين على وقف هجماتهم.
يرى مراقبون أن الاستهداف الأنجلو ــ أمريكى للحوثى، تصاعد المناوشات بين واشنطن والميليشيات الموالية لإيران فى لبنان، سوريا والعراق، تبادل الضربات بين إيران وباكستان، إنما يزج بالمنطقة إلى شفا صراع إقليمى، ما لم تضع الحرب الإسرائيلية المقيتة على غزة أوزارها. بيد أن التزام واشنطن وطهران بقواعد الاشتباك، يؤكد رغبتهما المشتركة فى عدم توسيع دائرة المواجهات. فبينما عادت حاملة الطائرات «جيرالد فورد»، إلى الشواطئ الأمريكية، غادرت سفينة التجسس الإيرانية، المتهمة بمساعدة الحوثيين فى استهداف السفن، صوب ميناء بندر عباس. فيما جددت طهران تبرؤها من مغامرات فصائلها الولائية.
مع بلوغ توترات البحر الأحمر نقطة حرجة للتصعيد، يجدد البيت الأبيض تمسكه بتجنب المواجهة مع إيران؛ فيما حرصت إدارة، بايدن، على الفصل بين حرب غزة، والمواجهات مع الحوثيين، محاولة دحض مزاعمهم بشأن استهدف سفن إسرائيل وحلفائها دعما للفلسطينيين. وفى حين وصفتها بريطانيا بأنها ضرورية، متناسبة، محدودة، ودقيقة، أرجأت واشنطن الهجمات ضد الحوثيين، حتى استهدافهم السفن الأمريكية. كما أخطرتهم بمكانها وزمانها، قبل أن تأتى مدروسة، ملتزمة قواعد الاشتباك، بما يحول دون خروج الأمور عن السيطرة.