«السوريين ما عندهم شى»
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الخميس 23 فبراير 2017 - 9:46 ص
بتوقيت القاهرة
اكتشفت مؤخرا أن ثمة تعبير بات يستخدمه ابنى بطبيعية حين يتحدث عن مفهوم العطاء أو العمل الخيرى، وهو تعبير «نعطى للسوريين»، بمعنى أنه، وفى ذهن سنواته السبع، أصبح يربط ما بين فكرة مساعدة من هم أقل حظا منه وبين مأساة السوريين، طبعا بحكم وجوده حولى واستراقه السمع، بقصد أو بالمصادفة، إلى الحديث الذى لا ينتهى فى منزلنا حول الوضع السورى وحجم المأساة الإنسانية التى هبطت على عدد مهول من السوريين.
فالطفل الذى أقحمته دون قرار واع منى فى واحدة من أعقد الأزمات السياسية والإنسانية فى العالم على الإطلاق، قد أسقط لقب «سورى» على أية حالة إنسانية تستدعى فى رأيه محاولة المساعدة. «ممكن أعطى شوى من ألعابى للسوريين؟» يسألنى الصغير وهو يفرز السيارات وقطع التركيب فى غرفته. «ماما تعمل فى مكان يساعد السوريين» يقول لصديقه أثناء اللعب. «السوريين يعنى ناس مشيوا من سوريا بسبب الحرب، عايشين بدون بيوت وبالخيمة وما عندهم شى».
•••
يكاد قلبى أن يقف وأنا أسمع تعريف صغيرى للسوريين، وتلك الصورة التى ينقلها لصاحبه، عن هوية مركبة معقدة تشغل مؤتمرات واجتماعات للخبراء والسياسيين والمانحين والعاملين فى المجال الإنسانى، فيختصرها بـ«السوريين ناس ما عندهم شى»، جملة كفيلة بأن تفقدنى كل أدوات التماسك التى استخدمها منذ ست سنوات، فى محاولاتى المستميتة لإبقاء سوريتى فى داخلى، بما فى ذلك إضفاء صبغة رومانسية على بعض أجزاء منها، ربما لم أكن أصلا اهتم بها حين كنت هناك.
أتفاجأ أحيانا أصلا بتفاصيل تحضرنى فترمينى وسط يوم عادى من أيام دمشق الرتيبة، وتحول ذاكرتى مجموعة التفاصيل إلى حدث استثنائى، وكأن ذلك اليوم كان أهم يوم فى حياتى. تجتاح أنفى رائحة الشارع، وهى خليط من رائحة عوادم السيارات واحتراق مازوت الدفايات المتطايرة أدخنته من مداخن البيوت، وبعض من رائحة قلى الفلافل وعطر من مسحوق الغسيل الذى أكاد أجزم أن كل بيوت دمشق تستخدمه دون غيره، تتمازج جميعها أو بعضها مع روائح أخرى تختلف مع اختلاف الأحياء.
•••
فى أدب المهجر، كما أحيانا فى أدب السجون، يدفعنا الحنين والشعور بالبعد إلى إعادة صياغة بعض أجزاء حياتنا بشكل ربما نركز فيه على ما هو جميل، ونتناسى، ولو للحظات، المنغصات. والعكس أيضا صحيح، فيمكننا أحيانا أن نقمع حنيننا بأن نمحو من مخيلتنا ضحكات وروائح ولحظات حميمة، بهدف أن نركز على بشاعة ما تركناه وراءنا، فتبدو لنا حياتنا الحالية أكثر قبولا لنا.
فى الحالتين، نحن نثقل بكفة على حساب الكفة الأخرى، فنهدئ النار تحت قدر من العواطف قد يعيقنا عن حل أمورنا الحياتية اليومية. فمن يريد اليوم أن يتذكر غرفة الجلوس وقت المغرب؟ وقد وضعت والدتى صينية عليها فناجين مليئة بقهوة لونها بنى غامق ولا رغوة على وجهها، كما تقتضى العادات والتعليمات فى سوريا. «يللى ما بتغلى القهوة منيح ما بتتجوز» كانت تردد جدتى وهى جالسة على كرسيها فى زاوية الغرفة. من يريد أن يمشى فى شارع بيته الذى لم يزره منذ سنوات؟ ويرفع بصره إلى شبابيك العمارات ليرى من ما زال نائما، فستائر شبابيكه مسدلة، ومن بدأ يومه ففتح باب الشرفة؟
•••
هناك حالة من النوستالجيا تفرض على، حين أشتاق إلى البيت، أن أتناسى زوايا حياتى التى لم أحبها قط، فأركز حنينى على تفاصيل، ربما كانت فعلا مهمة وقتها وربما لم تكن، إنما أنا لا أمتلكها الآن ولا أستطيع الوصول إليها، فأرانى غالبا ما قد أعطيها أكثر من حقها، أضخمها، أعلى من شأنها، فأقول لمن حولى أنه لا مشمش فى العالم مثل مشمش بساتين الغوطة، ولا فستق فى العالم مثل فستق حلب، بل ولا ماء زهر فى العالم مثل ماء زهر أشجار الليمون السورية. أستخف بماء الورد الذى يستخدم فى لبنان وفى المغرب، وأقلل من شأنه بالمقارنة مع نبل ماء الزهر السورى خاصتى.
لكن لتفسير ابنى لما هو «سورى» وقع وكأن أحدهم قد رمانى بقدر من ماء الثلج على رأسى. أهذه هى صورة بلدى وهويتى التى وصلت للولد؟ على الرغم من تمسكى باللهجة السورية، فأنا أرفض أن أتكلم مع أولادى بغيرها كما أرفض أن يردوا على بعامية غير تلك السورية. حتى أن لهجتهم تثير استغراب بعض الأصدقاء حتى من السوريين بسبب قربها الشديد من اللهجة الدمشقية التقليدية جدا، أكثر تقليدية من لهجتى نفسها، لهجة حارات قديمة يباع على ناصيتها الخبز الطازج وتخرج من مقاهيها طرطقة أكواب الشاى. أنا لا أعرف كيف ورث أطفالى هذه اللهجة، مع أنى أنا نفسى فقدت بعضا منها بسبب سفرى الدائم واختلاطى بسوريين وعرب ذوى لكنات مختلفة خففت نوعا ما من لهجة دمشقيتى.
•••
وبعيدا عن محاولة استرجاع بعض من كبريائى مع طفل ارتبطت عبارة «السوريين» فى ذهنه بصورة أولاد هجروا من بيوتهم، واضطروا أن يعملوا فى شوارع البلاد التى وصلوا إليها، أتساءل عن تعريف السورى كما عهدناه فى أوقات سابقة. «أحسن ناس» يقول لى أصدقائى فى مصر. «جديين، شغيلين، ولغتهم العربية قوية» يقول أصدقائى فى المغرب العربى. «كرماء ومطبخهم أحسن مطبخ فى المنطقة» يقول أصدقاء فرنسيون عاشوا فى الشرق الأوسط. إنما بالنسبة لأطفالى، وأنا أحاول جاهدة أن أكون ذاكرة بصرية لديهم عن بلد غنى ملون كريم بخيراته ونكهاته، فأنا صدقا لا أعرف اليوم كيف أغير سردية ذهن طفل عمره سبع سنوات فلا تقترن كلمة «سورى» فيه بجملة «ما عندهم شى».