تأثير تغييرات قطاع مياه الشرب على المناطق غير الرسمية فى مصر
العالم يفكر
آخر تحديث:
السبت 22 فبراير 2020 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
أجرت الباحثة «دينا خليل» ــ باحثة ومدرس بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ــ بالتعاون مع مؤسسة ميلون وكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة دراسة حول إعادة هيكلة الهيئة العامة لمياه الشرب، وتعامل قطاع مياه الشرب، وفقا لنظامين مع سكان المناطق غير الرسمية فى مصر، وما لهذه النظم من تداعيات.. نعرض منه ما يلى.
فى مقال سابق، تم مناقشة نهج التشبه بالقطاع الخاص وسياسات التكيف الهيكلى وتأثيرها على قطاع مياه الشرب فى مصر. فى نهاية المقال تم طرح تساؤل حول تأثير هذه التغيرات التى شهدها قطاع مياه الشرب على المناطق غير الرسمية فى مصر، خصوصا فى ضوء ملايين سكان هذه المناطق الذين يستخدمون المياه دون دفع فواتير، عن طريق وصلات غير رسمية أو ما تسميه شركة المياه بـ«الوصلات الخلسة».
قبل إصلاحات ٢٠٠٤، كان النهج الذى تتبعه مؤسسات الدولة تجاه الوصلات غير الرسمية هى محاربتها عن طريق إرسال الشرطة لتفكيك الوصلات، وفرض غرامة على مستخدميها، فى محاولة لوقف هذه الممارسة. ولكن تبنى نهج «التشبه بالقطاع الخاص» (اعتبارا من ٢٠٠٤) بدّل رؤية الشركة للوصلات غير الرسمية من سرقة يجب إيقافها إلى رأس مال غير مستغل. أى أن هؤلاء الذين يستخدمون المياه دون دفع ثمنها لم يعودوا فى نظر شركة المياه لصوصا يتعين علينا معاقبتهم وقطع المياه عنهم، بل تحولوا إلى مستهلكين مفيدين للشركة ولكنها فائدة مشروطة باسترداد مقابل الخدمة منهم.
***
تجلى هذا التحول فى فهم العلاقة بين المستهلك ومقدم الخدمة فى قرار شركة المياه، بعد عقود من الرفض، ببدء بناء شبكة مياه عامة فى العديد من المناطق غير الرسمية. فى بعض الحالات، قامت الشركة بإزالة الشبكة غير الرسمية الموجودة بالفعل، وفى حالات أخرى تركتها كما هى وقامت ببساطة بتثبيت الشبكة العامة مجاورةً لها. لكن تثبيت الشبكة لا يؤدى وحده إلى تحصيل الفواتير. والمشكلة الأكثر صعوبة هى أنه على الرغم من كون العديد من المناطق غير الرسمية أصبحت الآن متصلة بالشبكة العامة الرسمية، إلا أن التقديم للحصول على عداد مياه بقى متعذرًا على الكثير من السكان كونهم يفتقدون المستندات اللازمة، ولا سيما مستندات إثبات الحيازة القانونية للأرض أو ترخيص المبانى.
فى ضوء ذلك، ومن خلال حملة تحصيل الأموال من هؤلاء السكان، تم وضع نظامين للتعامل مع سكان هذه المناطق:
النظام الأول هو نظام الممارسة، ويعتمد على تقدير الموظف نظرًا لعدم وجود عداد يعطى قراءة دقيقة للاستهلاك. حيث يقوم المحصل المسئول بعدّ الوحدات السكنية فى المبنى وتقدير متوسط الاستهلاك لكل منها لحساب مبلغ شهرى لكل أسرة أو وحدة سكنية. نظرًا لأن المبالغ المحصلة تعتمد على تقدير فردى، فقد كانت شكوى السكان لسنوات هى أن المبالغ التى يدفعونها أعلى بكثير من استهلاكهم الفعلى. علاوة على ذلك، فإن نظام الممارسة لم يتم الاعتراف به علنًا من قبل مسئولى المياه ــ وإن كان مسئولو الكهرباء قد أقروا بوجوده. أى أننا يمكننا وصف هذا النظام بأنه صورة من صور الممارسات غير الرسمية التى تمارس من خلال المؤسسات الرسمية، ما يعطى أبعادًا أكثر عمقًا وتعقيدًا لظاهرة اللارسمنة فى مصر بشكل عام.
أما النظام الثانى فهو نظام العداد الكودى. وقد بدأت الشركة فى استخدامه لاستبدال نظام الممارسة غير الرسمى بنظام رسمى، وتم إصدار قرار فى عام ٢٠١٦ ليشرعن استخدام العداد الكودى فى المبانى المخالفة. يعد الفارق بين العداد الكودى وبين العداد العادى هو أنه لا يرتبط بعقد باسم المستهلك، وإنما برقم يمثل المبنى. كما نص القرار على أنه لا ينبغى استخدام ذلك كدليل على الشرعية أو الحيازة، فى رد تشريعى مستبق يرفض دعاوى السكان بمشروعية نمط إسكانهم والاستدلال على ذلك بالاتصال الرسمى بشبكة الخدمات والمرافق وحصولهم على عدادات مياه رسمية.
تداعيات تبنى نهج التشبه بالخصخصة
نتج عن تبنى نموذج أو منهجية القطاع الخاص بشكل عام، واستخدام العداد الكودى فى المناطق غير الرسمية بشكل خاص، بعض التغييرات التى حدثت مقارنة بنظام العداد العادى القائم فى المناطق الرسمية؛
• أولا، لم تعد شركة المياه تقلق بشأن مراقبة استهلاك هؤلاء السكان وحملهم على دفع فواتيرهم. بدلا من ذلك، يضطر السكان أنفسهم إلى تتبع استهلاكهم وشحن عداداتهم، وإذا فشلوا فى ذلك تمنع عنهم المياه بكل بساطة.
• ثانيا، على عكس نظام العداد العادى، مع العداد الكودى ليس هناك إنسان يمكن أن يتفاوض معه السكان لأن النظام تمت ميكنته وإحلال قارئ العداد ومحصل الفواتير بالكارت الذكى، وهو ما وصفه الباحث أليكساندر لوفتوس بظاهرة «دكتاتورية عداد المياه«». وهذا يماثل شحن رصيد الهاتف الجوال: إذا انتهى الرصيد، ببساطة تتوقف مياه الشرب إلى أن يتم الشحن مرة أخرى. وإذا تعرضت عائلة لظروف مالية (مثلا، مرض مفاجئ) بدلا من تأخير دفع فاتورة المياه للشهر المقبل، تضطر الأسرة مع العداد الكودى للاختيار بين علاج المرض أو الحصول على مياه للشرب. أى أن عبء توافر خدمة أساسية بهذه الحساسية أصبح مسئولية المواطن وخاضعًا بالكامل لقدرته على دفع ثمن الخدمة الآنى، بعد أن كان سابقا مسئولية الدولة.
• ثالثا، أوجد العداد الكودى طريقة تمكن الحكومة من الاستفادة من المناطق غير الرسمية (عن طريق تحصيل الفواتير من سكانها) وتمكنها فى نفس الوقت من تفادى إشكالية تقنين أوضاعهم. فلطالما اتخذ سكان المناطق غير الرسمية من وجود الخدمات العامة (خصوصا مياه الشرب والكهرباء ووجود عدادات أو نظام لتحصيل الفواتير) دليلًا قويًا على شرعية وجودهم واندماجهم فى النظام الرسمى بدرجة ما؛ أى أنهم جزء شرعى من المدينة لا يجب إنكار حقوقه. كما أتاحت هذه الوثائق لهم إجرائيًا التقديم بطلبات للحصول على خدمات إضافية. جاء القرار ٨٨٦/٢٠١٦ ليمنع هذا عن طريق النص على أن تركيب العداد الكودى لا يترتب عليه أية «حقوق قانونية للمخالفين»، ما يعيد ترسيخ تصورات تمييزية تصم النسبة الأكبر من السكان فى البلاد بعدم القانونية وتبطل مفعول أحد أهم آليات التأقلم التى طالما اعتمدوا عليها لتيسير معيشتهم فى المدينة.
• رابعا، رغم نص الدستور المصرى على أن الدولة تضمن حق كل مواطن فى «السكن الملائم» ــ والذى يتمثل فى حزمة حقوق لا يمكن تفكيكها تشمل مياه شرب آمنة وتشمل أيضا الحق فى الحيازة الآمنة للمسكن، أدى اتباع نهج التشبه بالخصخصة إلى تفكيك حزمة حقوق هذه وتحويل هذا الالتزام الدستورى إلى عبارة فارغة من المضمون بحيث تمكّن القوانين والممارسات المتبعة هيئات الدولة من غض الطرف عن قضايا الحيازة والحقوق العمرانية للسكان مع استمرار تحصيل الفواتير من المواطن، كما أشرت فى النقطة السابقة.
بتحليل أثر سياسة تحرير القطاع العام على قطاع مياه الشرب عبر العقود الماضية، نرى بوضوح أن الوقت قد حان لفتح مناقشة حول هذه المنظومة بأكملها. ورغم ما ترتب عليها من تغيرات إيجابية فى مدى انتشار ووصول شبكة المياه للمواطنين وتحسن كفاءة وفاعلية الخدمة، وهى بالطبع أهداف أساسية ومطلوبة، إلا أنه يجب مراعاة التداعيات ــ المباشرة وغير المباشرة ــ لاتباع هذا النهج وما لها من آثار سلبية على العديد من المواطنين. لا يجب بأى حال التغافل عن أن المؤسسات الحكومية بطبيعة الحال يجب أن تتمايز عن الشركات الخاصة فى أهدافها ودوافعها: فهى ليست جزءا من متجر أو سوق تبيع سلعة لمستهلكين، بل هى دولة تضمن حقوقا أساسية لمواطنيها وملزمة بقوة الدستور بأن تضع الأهداف الاجتماعية والسياسية بتوفير الخدمات الأساسية فوق كل الاعتبارات وقبل كل المؤشرات. وليس هناك خدمة أساسية فى النهاية أكثر إلحاحا من مياه شرب صحية وآمنة لكل مواطن مصرى.