متاهة تركية بصفقة «إس 400» الروسية
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 22 فبراير 2021 - 6:40 م
بتوقيت القاهرة
فى مسعى منه لتحقيق اختراق يتيح لبلاده مهربا من متاهة اقتناء منظومات «إس ــ 400» الصاروخية الروسية، التى أحدثت شرخا عميقا فى العلاقات الاستراتيجية بين أنقرة وحلفائها الأطلسيين، دفع إدارة ترامب لتفعيل قانون «كاتسا» وفرض عقوبات تقييدية على صناعتها الدفاعية فى ديسمبرالماضى ــ اقترح وزير الدفاع التركى، خلوصى أكار، على واشنطن صفقة توقف بموجبها دعمها لقوات سوريا الديمقراطية الكردية، مقابل عدول أنقرة عن تشغيل منظومات «إس ــ 400»، أسوة بتجربة يونانية ــ قبرصية سابقة مع منظومات صاروخية روسية من طراز «إس ــ 300» مطلع القرن الحالى.
على الرغم من تهافت المسئولين السياسيين والعسكريين الأتراك على استعراض تشبث بلادهم بحيازة المنظومات الصاروخية الروسية، مهما بلغ مستوى الرفض الأمريكى أو الاستياء الأطلسى، لم يكن العرض الذى قدمه وزير الدفاع التركى مفاجئا لكاتب هذه السطور، حيث سبقته، فى الاتجاه ذاته، مقدمات وإشارات تركية عديدة، لا تخطِئُها عين المراقب المدقق.
ففى حين ظل أردوغان يراهن على إمكانية إدراك تفاهمات مع الإدارة الأمريكية الجديدة بهذا الخصوص، مؤكدا تمسك بلاده بالمنظومات الروسية، وملوحا بنيتها شراء دفعة ثانية منها، وعزمها إبرام صفقة جديدة مع موسكو بشأن منظومات «إس ــ 500» الأحدث والأكثر تطورا، فجعه بايدن بمضيه على درب سلفه ترامب، مصرا على اعتبار تلك المنظومات خطرا على شبحية مقاتلات «إف ــ 35» الأمريكية، ولا تتسق مع التزام أنقرة بمبادئ العضوية بالحلف الأطلسى، كما لا تتوافق مع نظامه الدفاعى بقدر ما تهدد أمنه التكنولوجى، كونها تخول روسيا اختراق المنظومة الاستراتيجية الغربية. ومن ثم، أبقت الإدارة الديمقراطية على قرار سابقتها الجمهورية بتجميد تسليم أنقرة مائة مقاتلة من طراز «إف ــ 35» على الرغم من تعاقدها عليها وتسديد جل ثمنها، علاوة على استبعادها من قائمة الدول المشاركة بالبرنامج الإيكولوجى لتصنيعها، كما ذهبت أبعد من ذلك حينما هددت بفرض عقوبات أكثر غلظة على تركيا، بموجب قانون «كاتسا»، حالة إمعانها فى التمرد والعناد.
لقد جاء العرض التركى بعدما تكالبت الضغوط على أردوغان من كل حدب وصوب. فداخليا، يتواصل نزيف شعبيته على وقع الأزمة الاقتصادية الطاحنة، والفشل المزرى فى احتواء جائحة كورونا، فى الوقت الذى تلتئم قوى المعارضة فى مواجهته، رافضة مسعاه لوضع دستور جديد يكرس تسلطه، ومجددة مطالبها بإجراء انتخابات مبكرة والعودة إلى النظام البرلمانى. أما خارجيا، فقد تعانقت العقوبات الأوربية مع نظيرتها الأمريكية على أنقرة، والتى بلغت حرمانها من تلقى التكنولوجيا العسكرية الغربية المتطورة، لتبرز مستوى التنسيق الأمريكى الأوربى لاحتواء الخروقات والانتهاكات، التى لا يفتأ نظام أردوغان يقترفها داخل بلاده وخارجها، سواء لجهة العصف بالديمقراطية وحقوق الإنسان، أو بخصوص مواصلة مغامراته العسكرية المقوضة للأمن والاستقرار فى المحيط الإقليمى.
يأتى هذا بينما يكابد الجيش التركى تراجعا مروعا جراء تسريح أو توقيف أبرز كوادره وقياداته، بمن فيهم زهاء ثلث طياريه المحترفين، بذريعة تورطهم فى المحاولة الانقلابية المسرحية عام 2016، أو الانضواء تحت لواء حركة «خدمة» التى يتزعمها الداعية المعارض فتح الله كولن، فضلا عن تجميد واشنطن تسليم أنقرة مقاتلات «إف ــ 35»، وتعذر إتمام صفقات أخرى لشراء مقاتلات الجيل الخامس الروسية من طراز «سوخوى ــ 57» لأسباب مالية وتقنية واستراتيجية، علاوة على تعثر مشروع تصنيع أول مقاتلة تركية، وتعطل تصنيع نظام الدفاع الجوى والصاروخى بعيد المدى SIPER، تحت وطأة الضائقة المالية، وتجفيف الدول الغربية لأقنية التكنولوجيا العسكرية المنسابة صوب أنقرة.
لطالما ظلت أنقرة حريصة منذ بدء تسلمها المنظومات الروسية فى يوليو 2019، على تجنب استفزاز واشنطن بتجاوز خطها الأحمر الصارم المتمثل فى عدم نشر أو تشغيل تلك المنظومات، حتى أن أردوغان اضطر إلى عدم الوفاء بتعهداته المتعلقة بإتمام هاتين المهمتين فى إبريل 2020، متذرعا بتداعيات جائحة كورونا تارة، ثم باعتبارات تقنية تارة أخرى، وهو ما عرضه، وقتها، لعاصفة عاتية من الانتقادات الساخرة من جانب المعارضة. لاسيما بعد تأكيد تقارير روسية وغربية تأخر موسكو فى تزويد أنقرة بالشيفرات الخاصة بتشغيل المنظومات، فى الوقت الذى يفتقد الجيش التركى للخبرة المتعلقة بالاستعداد التشغيلى لها أو المعرفة اللازمة لوضعها فى حالة التأهب، دونما حاجة للفنيين الروس. يأتى هذا بينما تؤكد تقارير عسكرية غربية أن نسخة منظومات «إس ــ 400» الصاروخية الروسية التى تحصلت عليها تركيا، ليست هى الأفضل فى فئتها، كما تشوبها عيوب تقنية، رصدها خبراء أتراك، وفقا لموقع «أوراسيا تايمز».
ماثلة لا تزال هى الإشكالية التقنية والاستراتيجية المتعلقة باستحالة دمج المنظومة الصاروخية الروسية ضمن نظام الدفاع الجوى المشترك للحلف الأطلسى، الذى تتصل به جميع أنظمة الدفاع الصاروخى الفرعية للدول الثلاثين الأعضاء فيه. فما برحت قيادة الحلف ترفض ربط المنظومات الروسية التى تحوزها تركيا بذلك النظام، جراء التباينات الفنية بين منظومات روسية الصنع، والأنظمة المناظرة التى تستخدمها دول الحلف، وتم تصنيعها إما فى أوروبا وإما فى الولايات المتحدة. وسدى راحت محاولات أنقرة المستميتة لاستعطاف الحلف أملا فى تغيير موقفه، والتى تضمنت اقتراحا بتشكيل لجنة فنيةـ ـ تقنية مشتركة مع واشنطن للبحث فى المخاطر، التى قد يتمخض عنها التشغيل المستقل لمنظومات «إس ــ 400» بمنأى عن نظام الدفاع الجوى الموحد للحلف الأطلسى.
فى غضون ذلك، لا يبدو أن مساعى أنقرة لانتزاع شرط «المعاملة التعويضية» أو حق التصنيع المشترك لمنظومات «إس ــ 400» من طرف موسكو، قد آتت أكلها، فحتى تسطير هذا المقال، لم تكن شركة «كونسيرن ألماز ــ أنتى» الروسية المصنعة للمنظومات، قد أعلنت موافقتها على منح الأتراك تلك المزية الاستراتيجية الحساسة. الأمر الذى يجعل من الانعطافة التركية صوب روسيا فى مجال التسلح محض مقامرة كارثية العواقب، سيما أن أنقرة كانت تعلق عليها آمالا عريضة فيما يتصل بتدشين برامج للتصنيع العسكرى المشترك على أراضيها للعديد من المنظومات التسليحية المتقدمة مع شركات الدفاع الروسية ذائعة الصيت، أملا فى الارتقاء بمستوى تطور المشروع الوطنى التركى للصناعات العسكرية، لكن الأتراك لم يغنموا من ذلك سوى قبض الريح، فيما تلقت علاقاتهم الاستراتيجية بحلفائهم الغربيين ضربة موجعة جديدة.
وبينما شددت إدارة بايدن على ثبات موقفها حيال اقتناء أنقرة للمنظومات الروسية، مؤكدة أن العرض التركى الأخير بشأن التشغيل الجزئى والموسمى لها، لن يثنى واشنطن عن مطالبة الأتراك بالتخلى التام عن تلك الصفقة المزعجة، تبقى احتمالات حدوث تغير، ولو طفيفا، فى الموقف الأمريكى إزاء مبادرة أنقرة الجديدة مستقبلا، بما يتيح التوصل إلى تفاهمات ناجزة بهذا المضمار، مدعاة للهلع من تصاعد المعضلة المتعلقة بمصير منظومات «إس 400» التى تحوزها تركيا بعدما سددت ثمنها.
فمن جهة، ينطوى عقد شرائها من موسكو على بند يجعل من تركيا الطرف الثانى والأخير بالصفقة، بما يعنى منعها من التصرف فى محتوياتها أو بيعها لطرف ثالث، قبل الرجوع إلى الروس. ومن جهة أخرى، لا يبدو اقتراح وزير الدفاع التركى بشأن الاستخدام الموسمى أو الظرفى لتلك المنظومات، حسبما تقتضى طبيعة التهديدات المحتملة للأمن التركى، طرحا واقعيا. ففى حين وصفت أنقرة تخزين منظومات «إس 300» فى جزيرة كريت اليونانية، بعدما تخلت قبرص عام 1999 عن نشرها وتشغيلها، استجابة لضغوط أطلسية وتركية حينئذ، ولم تستخدم منذ ذلك الحين إلا لأغراض تدريبية عام 2013، بالوضع «غير العملى» ــ لا يبدو أن موسكو ستكون مطمئنة لجهة وضع منظوماتها الأحدث من طراز «إس 400» بمستودعات يمكن أن تطالها أيادى واشنطن والناتو، لتتعرف على أسرار تصنيعها وتشغيلها. بما سينعكس سلبا، لا محالة، على أية صفقات تسلح أو برامج للتعاون العسكرى بين روسيا وتركيا فى قابل الأيام، كما مشروعات التنسيق المشترك فى مجالات حيوية أخرى كأمن الطاقة.
تحت وطأة تلاقى هذه المعضلة، مع الرفض الأمريكى الصادم للعرض التركى المضطرب، بالتزامن مع استعصاء تشغيل المنظومات الصاروخية الروسية ــ يتبدى ارتباك أنقرة الفاضح فى متاهة إدارة الأزمة المصاحبة لصفقة اقتنائها، حيث خرج المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، ليجدد رفض بلاده التراجع عن امتلاك تلك المنظومات، مدعيا أن مقترح وزير الدفاع خلوصى أكار بخصوص الاستخدام الظرفى لها، قد أُسىء فهمه، مشددا على أن أنقرة ستسعى إلى تسوية أية مشكلات بهذا الصدد مع واشنطن من خلال مباحثات، قد لا يثق فى نجاعتها.