الصين بين الأيديولوجيا والتكنولوجيا
محمد المنشاوي
آخر تحديث:
الخميس 22 مارس 2018 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
«معركة السيادة الرقمية» أو The Battle for Digital Supremacy هكذا جاء عنوان غلاف مجلة الإيكونيميست الأسبوع الماضى، والذى تحدث عن طريق عدة مقالات فى المجلة الأسبوعية الأهم فى العالم عن صراع صامت بين عملاقى الريادة العالمية فى قطاعات التكنولوجيا المختلفة الولايات المتحدة والصين. وبالطبع هناك لاعبون آخرون يسعون للوجود ضمن نادى الكبار التكنولوجى العالمى، وعلى رأس تلك الدول تأتى اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية فى المقدمة، إلا أن حجم وسعة السوق والبنية التحتية التكنولوجية تجعل السباق محصورا بين أمريكا والصين. لكن هذا السباق على هذا المستوى لا يعرف منتصرا منفردا ولا يعرف كذلك مهزوما وحيدا. ودفع تعقد صناعة التكنولوجيا لتعاون الطرفين فى الكثير من المجالات، بل دفع كذلك لاعتمادهما على البعض بصورة متكررة، وعلى سبيل المثال يُكتب على تليفونات شركة آبل الأمريكية عبارة «صُمم فى كاليفورنيا، وجُمع فى الصين».
***
تختلف الصين ونموذجها السياسى الاقتصادى الثقافى الاجتماعى جذريا عن مثيله الأمريكى، ويعكس هذا الاختلاف بالأساس اختلاف رؤية الصين لنفسها ولدورها العالمى ولعلاقاتها ببقية دول وأقاليم العالم عن ذلك الذى تراه أمريكا والغرب عموما لأنفسهم وللآخرين. وبعد انتهاء أعمال المؤتمر الوطنى التاسع عشر للحزب الشيوعى الصينى منذ أيام، والذى كان أهم ما جاء فيه هو إعادة انتخاب الرئيس شى جين بينج، والموافقة على تعديل الدستور لإلغاء مادة فترات الحكم التى لم يكن لها أن تتخطى الفترتين، وجعلها فترات مفتوحة بلا حد أقصى، أكد الرئيس الصينى أن بلاده لا تسعى للهيمنة أو التوسع ولا تهدد الدول الأخرى. وقال إن «الصين لن تسعى أبدا للهيمنة أو التوسع». وحتى الآن لا يعرف عن الصين التدخل فى الشئون السياسية للدول الأخرى. فقط وحتى الآن هناك تدخل صينى اقتصادى وتجارى واستثمارى مع الكثير من دول العالم، خاصة فى دول العالم الثالث بقارات آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية. نعم لا تعرف الصين الوجود العسكرى حول العالم، ولها فقط قاعدة عسكرية فى دولة جيبوتى عند مدخل البحر الأحمر، وذلك على العكس من الوجود الأمريكى فى عشرات الدول ومن خلال عشرات وربما المئات من القواعد العسكرية حول العالم. نعم ليس للصين إرث من التدخل فى الشئون السياسية لدول العالم الثالث، ولم يعرف عن الصين تدخلها فى انتخابات دول أخرى لترجيح كفة مرشح مفضل أو تيار سياسى صديق. لكن مع تمدد الصين تجاريا واقتصاديا يصبح السؤال عما ستتبعه الصين مستقبليا سؤالا مشروعا. وبالفعل قد لا تريد الصين التدخل فى شئون الآخرين، إلا أن هذا الموقف قد لا يكون رغبة منها، بل قد يصبح ضرورة لا بديل عنها عن طريق التدخل لتغيير أو تبنى سياسات اقتصادية تفضلها.
***
نجحت الصين خلال العقدين الأخيرين وسجلت معجزة بكل المقاييس المادية المتاحة من حيث النمو الاقتصادى، ومن حيث نقل ملايين البشر من الفقر المدقع لطبقات وسطى مستقرة، ونجحت فى عمليات تطوير كبيرة وميكنة غير مسبوقة للريف الصينى. ولم يتوقف الطموح الصينى عند ذلك الحد، بل تقدمت تكنولوجيا بصورة سريعة جدا، وأصبح للصين شركتان ضمن أكبر ست شركات تكنولوجية فى العالم من حيث القيمة السوقية، رابع وسادس أكبر شركات التكنولوجيا العالمية من الصين وهما شركة تنسنت tencent وشركة على بابا alibaba هذا إلى جانب شركات آبل وآلفابيت (جوجل) وأمازون وفيسبوك الأمريكيين. وتتمتع الصين بأكبر عدد من مستخدمى الإنترنت ممن يوجدون فى دولة واحدة بما يفوق 800 مليون شخص. وتتيح تلك الكتلة البشرية الرقمية مادة خام لا تقدر بثمن لأغراض البحث والتطوير وإدارة قواعد البيانات العملاقة. ويخدم ذلك بصورة رئيسية قطاع الذكاء الصناعى Artificial Intelligent. ويتوقع إيريك شميت، الرئيس التنفيذى السابق لشركة جوجل، أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة فى هذا المجال الحيوى بحلول عام 2025. ويعد الذكاء الصناعى الذى تتطور تقنياته بسرعة كبيرة وبصورة أكثر تعقيدا، من أهم وأخطر مجالات المنافسة العالمية بين الكبار. وببساطة يمكن تعريفه على أنه «علم وهندسة صنع آلات وكمبيوترات ذكية تستطيع تطوير شبكات عصبية صناعية تحاكى فى طريقة عملها أسلوب الدماغ البشرى». وتنبع خطورة هذا القطاع من اتساع استخداماته فى العديد من المجالات العسكرية والمفاعلات النووية، إضافة للكثير من المجالات الصناعية والتعليمية والطبية.
وعلى الرغم من تصنيع الصين لكل شيء من أدوات وملابس رخيصة، إلى صناعة السيارات والسفن والطائرات، تدرك الصين أنه إذا أرادت أن تصبح قوة كبرى فعليها تخطى مجال التصنيع التقليدى، والانتقال لتصبح دولة تكنولوجية رقمية رائدة. وبالفعل هذا ما تقدم الصين عليه حاليا، وتنفق الصين ببذخ فى مجال الأبحاث والتطوير، ومن بين أقوى 500 سوبر كمبيوتر فى العالم، تمتلك الصين وحدها 202 منها، فى حين تمتلك الولايات المتحدة 143 فقط.
وكشفت الصين ــ الصيف الماضى ــ النقاب عن خطتها الطموح لتطوير برامجها فى مجال الذكاء الصناعى المختلفة، والتى تضمنت أن تكون لها السيادة العالمية فى هذا المجال بحلول عام 2030. والخطط فى الصين ليست كالخطط عندنا، ويتبع نشر الخطة تقسيم العمل على مستوى المحليات والشركات الحكومية والشركات الحاصة وكل ذلك بهدف تحويل المحليات إلى مراكز تكنولوجية مبتكرة، ونفس الشيء على الشركات الحكومية والخاصة، وخصصت بيكين مبلغ 7 مليارات دولار لبدء التحرك فى هذه الاتجاهات طبقا لدراسة للكونجرس الأمريكى.
***
قبل يومين أكد الرئيس الصينى أن «النهضة العظيمة التى تشهدها بلاده لا يمكن أن تتحقق إلا عبر التمسك بالاشتراكية»، وتعهد شى كذلك باتباع إرشاد الماركسية اللينينية وفكر ماو تسى تونج ونظرية دينج شياو بينج ومفهوم التنمية العلمية وفكر الاشتراكية ذات الخصائص الصينية فى العصر الجديد.
الرئيس شى لا يعرف حدودا لطموحاته سواء الشخصية أو تلك المتعلقة ببلاده. وللتكنولوجيا محاسنها، ولها مساوئها فى الوقت ذاته. فالتقدم الكبير فى مجال الذكاء الصناعى، وعلى سبيل المثال، يمنح السلطات الصينية قدرات كبيرة لا يمكن تخيلها من قبل لمتابعة ومراقبة مواطنيها. ويستخدم البوليس الصينى أحدث التقنيات لوأد أى أصوات معارضة للنظام الصينى وللسيطرة على حرية النشر والمعلومات.
لكن هل تستطيع الصين، الدولة الاشتراكية ذات الحكومة المركزية القوية، وذات الحزب الشيوعى المسيطر، وذات الأيديولوجيا السياسية الجامدة أن تستمر فى الاستثمار التكنولوجى الذى يتطلب انفتاحا فكريا وإبداعيا بلا حدود؟!!.