الميتافرس كَونٌ افتراضيٌ بديلٌ للواقع
العالم يفكر
آخر تحديث:
الثلاثاء 22 مارس 2022 - 7:23 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا بتاريخ 18 مارس 2022 للكاتب غسان مراد، تحدث فيه عن الآثار الإيجابية والسلبية لعالم الميتافيرس.. نعرض من المقال ما يلى.
لا أعتقد أن مارك زوكربيرغ يحتاج إلى جائحة ليُعلن دخوله عالَم الميتافرس عبر تغيير اسم مؤسَسته إلى «ميتا» (META#)، تماهيا مع الميتافرس (metaverse#)، وليكون سباقا، ويدخل بقوة إلى الكَون الافتراضى المُستجد، عبر إعلانه تشكيل فريقٍ من 10 آلاف مهندسٍ لتنفيذ هذه الخطوة، مع حشْدِه عدة مليارات لإبراز رؤيته الخاصة قبل الآخرين، وهو يزعم أنَ مُستخدِمى شبكاته الرقمية سيكونون أكثر قربا من بعضهم البعض!
يرى مؤسِس «فيسبوك» أنَنا سنتوقَف عن رؤية أنفسنا كمجموعة وسائط اجتماعية بعد 5 سنوات، بل سيُنظر إلى كلِ الشبكات الاجتماعية كميتافرس. خير مثال على ذلك لعبة «Second Life» التى بلغت أوجهًا فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، بخصائصها الواقعية و«سكانها» ونظامها النقدى.
لا شك فى أنَ جائحة «كوفيد 19» سرَّعت لجوء الناس إلى التقنيات، ما أدى إلى تسارُع رقْمنة أنماط الحياة، وخصوصا أنَ جزءا منها بات شبه مستحيل فى الحياة الواقعية؛ ففى العالَم الافتراضى المُفترَض مستقبلا، سيكون العيش مُمكنا من دون مُغادرة المنزل، من خلال ميتافرس.
إن مصطلح ميتافرس (ما وراء الكون)، لتوصيف عالَمٍ افتراضى خيالى، مُستوحى من الكلمة اليونانية «meta» التى تعنى «ما وراء»، وكلمة «universe» التى تعنى الكَون؛ وهو يُستخدم لوصف إصدارٍ مُستقبلى من الإنترنت، حيث يُمكن الوصول إلى الفضاءات الافتراضية المستمرة والتشاركية عبر تفاعُلٍ ثلاثى الأبعاد، التى يتم إدراكها فى الواقع المعزز.
الميتافرس يشبه كَونا مُوازيا، لأنَ العناصر التى يتكوَن منها ثابتة، ونحن نتجول فيه من خلال رؤية الصورة الرمزية الافتراضية الخاصة بنا. باختصار، علينا تخيُل عالمٍ لسنا مُلزمين فيه بمُغادرة المنزل للذهاب إلى السينما أو التسوُق أو حضور حفلة موسيقية. ولكنْ أَلَم نُصبح حاليا قريبين من حياة الميتافرس؟
بالنسبة إلى الأفراد، سيُشكل الميتافرس امتدادا للذات الافتراضية، ما يؤدى إلى البحث عن انسجامٍ بين الهُويات المتعددة التى أتت من الرقْمَنة والافتراضى، والبعض سيعتبر أنَ العالَم الافتراضى أفضل من عالَمه الواقعى، ما سيوقعنا فى ازدواجية الواقع وازدواجية الـ«أنا» التى تدمج بين الواقع والخيال.
من الناحية الأخلاقية، لا تتطرق الشركات العالَمية للرقْمَنة إلى هذه المسألة، ما يُذكرنا ببدايات الإنترنت، عندما اعتبرنا أن حرية الوصول إلى المعلومات باتت مُتاحة للجميع، وأن الإنترنت سيُساعد الدول الفقيرة على تطوير اقتصادها وتنظيمه بناء على رأس المال الفكرى، ولكنْ مع مرور الوقت اتسعت الفجوتان الرقمية والمعرفية، وكل ذلك لم يكُن إلا وسيلة للتسلُط المعرفى والتحكُم فى سلوكيات الأفراد واقتصادات الدول. مع الميتافرس، سيسهل تدفُق الأموال إلى العملات الافتراضية، وسيصبح بمثابة جنة للمُستثمِر فى اقتصادٍ ما زال غير منظَم يرسِخ عدم المساواة من الناحية الاقتصادية.
هذا الخيال التكنولوجى الذى سُمى «ميتافرس» هو الأُفق الجديد لوادى السيليكون. وما قد يحصل، سيَجعل «الغافام» (GAFAM) ــ غوغل وآبل وفيسبوك وأمازون وميكروسوفت ــ أكثر تمكنًا اقتصاديا، وأكثر دفْعا لحدود العالَم المادى حتى يتم دمْج العالَميْن الواقعى والافتراضى وخلْقِ عالَمٍ رقمى مُوازٍ.
• • •
فى عالَم الميتافرس، سيُصبح لكلِ مُستخدِمٍ صورةٌ ثلاثية الأبعاد أو «أفاتار» (Avatar) يشكل توأمه الافتراضى، ويُعتقد أن ذلك سيُصبح شائعا فى الأعوام الثلاثين القادمة. هذا التوأم يعبِر عن صورتنا الرمزية الخاصة التى ستقوم بالإجراءات الشكلية فى العالَم الافتراضى.
وعادة ما يكون كل جديد فى الشبكة قابلا للاستغلال فى أنواع الجرائم كافة، فالجرائم التى تحصل فى الواقع هاجرت إلى عالَم الإنترنت بأشكالٍ مُختلفة تتفاوت فى خطورتها. ماذا سيحصل عندما يلمس شخصٌ ما الصورةَ الرمزية لشخصٍ آخر؟ هذا ما يحصل فى ألعاب الفيديو الثلاثية الأبعاد حاليا. بعض المُستخدِمين يشتكون أنَهم ضحية لمْس صورتهم الرمزية. هل هذا نَوع من الأنواع الجديدة للتحرش؟ وكيف سيكون تأثير ذلك فى الفرد فى الواقع؟
من ناحية أخرى، ستكون الصحة البدنية والعقلية للأشخاص وحماية البيانات والأمن السيبرانى معرَضة للخطر، وستتمكن السلطات من استغلال هذه التطبيقات لفرْضِ سيطرتها أكثر على المُجتمعات والأفراد، من خلال المُراقبة الدائمة التى تسمح بالتلاعُب بسلوكياتهم وتوجُهاتهم.
وكما هو الحال مع ألعاب الفيديو، إنَ فكرة الإدمان والاكتئاب والانتحار حاضرة عند المُستخدِمين، ولا ننسى موافقتهم الرقمية وسمعتهم الإلكترونية التى يُمكن أن تُلطَخ، إضافة إلى أفعالهم التى يتم تنفيذها فى بيئةٍ من نَوع الميتافرس. كما ستُثير البيانات المالية والعاطفية مَخاوف بشأن أمنها وسريتها وملكيتها، وستستمر الأنظمة الأساسية بكونها هدفا لسرقة البيانات. إنَ المُضايقات تشكل الآن مشكلة فى شبكات التواصل، فكيف ستكون فى الواقع الافتراضي؟ هل سينجر المُستخدِم إلى استحضار الافتراضى فى مُغامراته فى الحياة الواقعية؟
من الواضح أن السلوك البشرى، إيجابيا كان أم سلبيا، موجودٌ فى البيئات الافتراضية. كان هذا هو الحال مع المدونات والمُنتديات، ثم فى شبكات التواصل الاجتماعى، وسوف نجدها فى الميتافرس. ستكون هناك حتما مجموعةٌ كاملة من الرقابة، كما هو الحال فى وسائل التواصل الاجتماعى، لكن الطبيعة البشرية ستستمر بصب جوانبها السلبية كما الإيجابية. إذا، هل يحمل الميتافرس فكرة عالَم أفضل من الواقع؟
• • •
من المؤكد أن الميتافرس، كما هو مطروح حاليا، سيؤدى إلى تضخيم الأشياء جراء التجسيد الثلاثى الأبعاد للأفراد. اقتصاديا، بدأت وزارة الزراعة الروسية فعلا باستثمار نظارات الواقع الافتراضى فى المَزارع، بوضْعها على عيون الأبقار، ما أدى إلى زيادة حجْم الإنتاج بشكلٍ ملحوظ!
ولا شكَ فى أن الشركات التجارية الكبرى ستستثمر فى الميتافرس أيضا، الذى بات يُعتبَر منجما جديدا من مَناجِم «الذهب الرقمى» لتنشيط العلامات التجارية والتسوق، والذى سيُشكل مساحة يُمكن أن تَمنح نَوعا من التبادُل الحقيقى للقيمة بين الزبائن والعلامات التجارية، من خلال المحتوى أو المُنتجات أو لمجرد النقاش.
على سبيل المثال، برزت ثقافةُ الألعاب التى جَذبت العلامات التجارية الرياضية لأول مرة، والتى بدأت قبل مواسم عدة فى توقيع شراكات مع الفِرق الرياضية لبناء ألعابٍ إلكترونية مُحترفة. ومع تطوُر المزيد من جوانب الحياة عبر الإنترنت، سيزداد الطلب على الأزياء والمُنتجات الرقمية.
ويُعتقد أنَ الميتافرس سيفتح الأبواب أمام العلامات التجارية لتصل إلى 56 مليار دولار بحلول العام 2030. سترتدى الصور الرمزية المَلابس الشخصية التى يستخدمها المُستخدِمون والمستخدمات، وستستغل الأشياء كمَظاهر للتفرُد والتعبير عن الذات، تماما كما يفعل البشر فى العالَم المادى، وسندخل فى عالَم التمظهُر من جديد.
والأكثر بُعدا وخيالا هو استثمار أموالٍ حقيقية وشراء ثياب وبيوت افتراضيا مثلا. وبالتالى، كيف سيعبِر ذلك عن الحالة الاجتماعية؟ وعند ضياع الهوية، هل سيُنفِذ المُستخدِم فى الواقع ما يحصل معه فى الافتراضي؟ وهل ستتحوَل الشبكات الاجتماعية إلى شبكاتِ تواصلٍ لطبقاتٍ اجتماعية افتراضية، كما يحصل فى الحياة الواقعية؟
هذا الأمر يُعيدنا إلى المخاطر فى عالَم الجرائم الإلكترونية التى يُمكن أن تؤدى إلى تجاوزات ومخاطر فى العالم الحقيقى ناتجة من الميتافرس إذا نفذ المُستخدِم ما يقوم به افتراضيا. كل ذلك يُنذِر بمخاطر جديدة يجب دمْجها فى الاستراتيجيات الأمنية للأفراد والجهات الفاعلة.
ومن الضرورى تدريب المستخدمين والمستخدمات والشباب الذين تتنوع أساليب استخدامهم للمنصات والتطبيقات قدر الإمكان، لأنَ التفاعل سيتغير نسبيا مع الميتافرس، وسيُصبح حسيا بشكلٍ أكبر. ولم يعُد الأمر متعلقا بالبيانات الشخصية فقط، بل بالبيانات السلوكية أيضا، إذ إن جسدك هو الذى يتفاعل، لكن ما الحدود التى تفصل العالَم الحقيقى عن العالَم الافتراضى؟
فى هذا النظام، على المُستخدِم أن يكون قادرا على معرفة مع مَن يتفاعل؛ مع أناس حقيقيين أو مصنوعات يدوية؟ من الضرورى أن يفهم المُستخدِمون مسألة تفاعلاتهم، وأن يعرفوا كيف يتغير النظام وكيف يُمكن التكيُف معه. وتشكِل الهجمات الإلكترونية تهديدا كبيرا للبيئة الرقمية. وبالتالى، ليس الميتافرس بمنأى عن هذا الخطر. إنَ سرقة الرموز غير القابلة للاستبدال (NFT) والبنى التحتية الحيوية والتزوير والانتهاكات الجسيمة مُدرَجة فى برنامج أساليب التشغيل الجديدة للمُخالِفين السيبرانيين، ومن الضرورى وضع القواعد الضابطة لها.
• • •
أخيرا، إن المخاطر الملموسة مُرتبطة بإسقاط العالَم الحقيقى فى الميتافرس، الذى لن يخضع لقواعد العالَم الحقيقى بحُكم طبيعته الافتراضية. علاوة على ذلك، سيَشهد الميتافرس وصولَ أجهزةٍ تقنية جديدة لا تمثِل النظارات الثلاثية الأبعاد سوى مقدمة صغيرة عنها، وسيُعد تغييرا كبيرا من حيث البيئة الثقافية مقارنة بالفترة التى حدث فيها الاضْطرابان الكبيران السابقان اللذان يدعمهما الإنترنت: الويب فى أوائل التسعينيات، والشبكة الاجتماعية فى أوائل القرن الحادى والعشرين. وعلى الأرجح أن «كوفيد 19» والتغيُر المناخى والجيل الخامس والميتافرس ستؤدى كلها إلى ثورةٍ جديدة فى عالَم الإنترنت.
فى النهاية، الميتافرس والتقنيات الرقمية جميعها تظل أدوات، وهى تصبح ما نفعله بها، وليس ما تفعله بنا. لذلك، من المُفترض توطين هذه الأدوات فى مُجتمعاتنا بحسب قيَمنا الثقافية، من خلال التربية على ثقافة التقنيات الرقمية، التى عليها أن تُصبح من ضروريات التعلُم المُستمر.
النص الأصلي هنا