حتى الرابعة والثمانين
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 22 مارس 2023 - 7:15 م
بتوقيت القاهرة
في الفيلم السوداني شديد الجمال "ستموت في العشرين"، تمضي الأم سنوات طفلها الذي يصبح مراهقا وشابا وهي تنتظر بقلق وترقب أن تتحقق نبوءة أنه سيموت حين يدخل عامه العشرين. يفرد الفيلم أمام المشاهد قلب أم يحمل وجعا ينقط كما من قطارة يوما بعد يوم. ترسم خط النهاية كأنه حتمي وتنقط أيامها مع الولد وكأن كل يوم تمضيه معه وهو حي يوم تنتزعه من مفكرة تسطر فيها خوفها من الفقدان.
• • •
حين بلغني الطبيب عن الورم، لم أفكر في الأيام الأولى سوى بابنتي ذات السنوات الست. كنت أمشي مع الطبيب في دهاليز العلاج وأنا أحسب كم عام يفصلها عن المراهقة، عن المرحلة الثانوية في المدرسة، عن الجامعة وعن سنوات تصبح فيها شخص يعتمد على نفسه. كتبت لها رسائل سترافقها فيها في سنواتها القادمة حتى لو لم أعد موجودة. اتفقت مع صديقة مقربة أنها ستشرح التغييرات التي ستدخل عليها مع المراهقة. اتفقت مع صديقة أخرى أن تحتفظ بأغلى الممتلكات الخاصة على قلبي، والتي كنت بطبيعة الحال أنوي أن أعطيها لابنتي كما كنت قد أخذت بعضها من أمي أصلا.
• • •
تلقيت أخبارا مشجعة عن احتمال الشفاء العالي منذ البداية، إلا أنني كنت شديدة التركيز على شيئين: التمسك بحياة يومية عائلية ومهنية تبدو طبيعية، والتحضير لعالم قد لا أكون جزءا منه، فوضعت ترتيبات لأسرتي إن رحلت. صرت أحسب على أصابعي عمر أولادي إن رحلت بعد سنتين أو خمس أو ثمان أو بعد عشر سنوات، رغم تفاؤل الطبيب الذي لم ير مبررا لحساباتي نظرا لاكتشاف الورم المبكر والذي يبشر بنتائج جيدة.
• • •
أمضيت شهورا أحاول أن أفهم علاقتي بالزمن. لطالما تخيلت نفسي سيدة متقدمة في السن أجلس على شرفة بيتي في القاهرة عند الغروب أراقب الشارع وأنتظر مكالمة أحد الأولاد. أو نفس السيدة أزور إحدى صديقاتي ممن لا يتركن الحي المتهالك الذي نعيش فيه. محادثات متخيلة مع ابني الأوسط حول خياره أن يعيش وسط مجتمع من اللاجئين يعلم الأطفال القراءة والكتابة تحت الخيمة.
• • •
أظن أنني أفتقد حكمة البعض في التعامل مع وجودهم على الأرض على أنه مؤقت. أعترف أن لدي خطة واضحة حتى عامي الرابع والثمانين. لا أعرف لماذا هذا الرقم تحديدا لكن لنقل أنه عمر أصدقاء مقربين إلى قلبي أحب أن أشبههم حين أصل إلى عمرهم. لذا، فحين بدأت بعد تنازلي فرضته على نفسي في مراحل المرض الأولى، تساءلت عما سيحل بالسيدة في الكرسي على الشرفة ثم قلت أنها أصلا، أي أنا، لن نكون في العالم فلماذا السؤال؟!.
• • •
قرأت الكثير عن علاقة الشخص بالزمن، وكيف أن الزمن كفيل بالعلاج، أو أن مرور أربعة فصول على حادث أو تغيير مفصلي يسمح للشخص المتلقي للصدمة تقبل الحدث والتعامل معه. سألت نفسي سؤالا كان يبدو في أزمان أخرى فلسفيا إنما بدا لي فجأة مصيريا: إن كانت أيامي أو سنواتي على الأرض معدودة، كيف أريد أن أمضيها؟
• • •
حين بدأت نتائج العلاج الإيجابية تطغى على أسابيع الصدمة الأولية، سرعان ما عدت إلى إيقاعي اليومي المعتاد وتوبيخي المتكرر للأولاد وملاحظاتي المزعجة لعائلتي حول أمور أراها مهمة ولا يراها زوجي وأولادي كذلك. من الظاهر عاد كل شيء إلى مكانه في حياتنا بعد شهور من التخبط. لكن في داخلي حدث تغير كبير: لم أعد أرى سيدة متقدمة في السن تجلس على شرفة تراقب الشارع. فقدت عاملا بصريا كنت أعتمد عليه كثيرا ما قبل الوعكة الصحية. أو بالأحرى فقدت تقنية كنت أمتلكها للتأكد أن كل شيء في مكانه وفق نظرتي للحياة وفرضي لهذه النظرة على المقربين مني.
• • •
لم أعد مهتمة بخطط طويلة الأمد ولم أعد أركب حياة كاملة لي ولعائلتي ومن حولي تنتظرنا بعد عدة عقود. فقدت أصلا قدرتي على الرمي بنفسي عبر نفق زمني سريع كما كنت أفعل من قبل وكنت أخرج من طرفه الآخر سيدة في الرابعة والثمانين مع عالم كامل أتخيله وكأنه حقيقة مطلقة. سألت نفسي أخيرا كيف كنت أرى الحياة وكأنها خط متصل حتى لو تخللته ذبذبات، كيف تعاملت مع رحيل آخرين دون أن أفكر أنني قد أكون "الآخرين" بالنسبة لغيري؟
• • •
لن أدعي أنني أصبحت أكثر حكمة أو روحانية إنما أعترف أن في الصدمة الكثير من التواضع، أي الوقوف أمام معضلة لن أملك بالضرورة حلا لها كما اعتدت في مشاكل أخرى. في الصدمة اعتراف أنني قد أعجز، قد لا يكون عندي حل، قد يقرر الكون مصيري دون أن أعطي رأيي. في الصدمة لحظة تأمل طويلة وقاسية، وشعور بالامتنان مغرق في كرمه تجاه مصيبة قد أتعداها لكني لن أكون نفس الشخص. هناك حياة ما قبل الصدمة وحياة ما بعدها.
• • •
اليوم، بين عيد الأم وبدء شهر رمضان، أتمنى أن أصل إلى العقد التاسع من عمري، أتمنى فعلا أن أعود إلى الحي الذي عشت فيه سنوات طفولة أولادي رغم تهالكه، أتمنى أن أشاكس جارة مزعجة أو أطلب من الأصدقاء حين أراهم يمرون تحت شرفتي أن يصعدوا لاحتساء القهوة معي. لكني لم أعد أراني بنفس الوضوح وصرت أكثر حضورا في لحظاتي الآنية.