فتنة الواعظ الرومي!

بلال فضل
بلال فضل

آخر تحديث: الإثنين 22 أبريل 2013 - 9:11 ص بتوقيت القاهرة

لا تغرنك جعجة المتاجرين بشعارات الدين وإفسادهم في الديار، فأمثالهم مروا على مصر كثيرا وذهبوا كغثاء السيل، لأنهم لم يكونوا سوى ظاهرة صوتية لا علاقة لها بهموم الناس وآلامهم، لذلك حتى وإن كَدّر هؤلاء صفو الحاضر ونغّصوه على الناس، سيظلون بلا مستقبل، لسبب بسيط هو أنهم ينتمون إلى الماضي، والإنسان دائما محكوم بالأمل الذي يدفعه إلى الحلم بمستقبل أفضل حتى وإن استولت عليه الشعارات المنتمية إلى الماضي حينا من الوقت.

 

في الجزء الأول من تاريخه الأشهر يحكي المؤرخ المصري العظيم عبد الرحمن الجبرتي كثيرا عن أولئك الذين يعلو نجمهم في الأيام التي يصفها بأنها «أيام فتن وحروب وشرور»، حيث يبدأون في استقطاب المريدين بإسم الدين ويبدأون في تشكيل قوة هوجاء لا عقل لها، وسرعان ما يغرهم الحشد فيخطئون قراءة الواقع وينجرون إلى معارك غير محسوبة تستعدي الجميع عليهم، وينتهي الأمر غالبا بإختفائهم من مسرح الأحداث، من أبرز الأمثلة على هؤلاء واعظ ظهر في عام 1711 بعد فترة قليلة من وقوع إضطرابات عنيفة شهدتها القاهرة بين عدد من الطوائف والعسكر، سرى بسببها الذعر في القاهرة وهجر الناس منازلهم، وفي هذا المناخ المحتقن بزغ نجم ذلك الواعظ الذي لا يذكر الجبرتي إسمه أبدا، يكتفي طيلة الوقت بوصفه بالواعظ الرومي، ربما لأنه استكثر عليه تخليد إسمه، مع أنه يروي بالتفصيل كيف بدأ ذيوع صيته في شهر رمضان في جامع المؤيد، عندما بدأ يجتذب جمهورا من الذين استهواهم إنتقاده لتبرك أهل مصر بأضرحة الأولياء وإيقاد الشموع والقناديل على قبورهم واصفا ذلك بأنه كفر يجب على ولاة الأمور إبطاله، ويبدو أن عدد مريديه غره فقرر أن يخرج إلى تجمعات المصريين على قبور الأولياء أمام باب زويلة لتغيير ما ينتقده بنفسه، يستخدم الجبرتي هنا تعبيرا تشعر أنه قادم من عصرنا نحن، فيقول أنه أصبح للواعظ الرومي حزب،»وخرج حزبه بعد صلاة التراويح ووقفوا بالنبابيت والأسلحة فهرب الذين يقفون بباب زويلة»، وبدأ أعضاء حزب الواعظ يقطعون الجوخ الذي تغطى به الأضرحة وهم يقولون للناس: أين الأولياء، وهنا لجأ بعض الناس إلى العلماء بالأزهر وأخبروهم بقول ذلك الواعظ، فأفتى لهم الشيخان أحمد النفراوي وأحمد الخليفي بأن كرامات الأولياء لا تنقطع بالموت وأوصوا بأن يقوم الحاكم بقتل الواعظ الرومي، فأخذ هؤلاء الفتوى وأعطوها للواعظ وهو في مجلسه، فغضب وقال لمريديه أنه يريد أن يناظر هؤلاء الشيوخ مناظرة علنية بحضور قاضي العسكر، وألهب مشاعر الحاضرين لكي يساندوه في طلبه، فتجمع حوله ألف شخص مر بهم من وسط القاهرة في مظاهرة كانت حدثا جللا في ذلك الزمن، وعندما وصل بهم إلى بيت القاضي ارتعب القاضي من المشهد، قدموا له الفتوى وطلبوا منه إحضار المفتيين لمناظرتهما، فحاول التهرب، طلبوا رأيه في الفتوى، فقال لهم تحت تأثير الخوف أنه يراها باطلة، فطلبوا أن يكتب لهم حجة ببطلانها، فلما تحجج بأن الشهود غير موجودين، انفعلوا عليه وضربوا ترجمانه، فهرب القاضي هو وأهل بيته، وقام نائبه بكتابة حجة لهم ببطلان الفتوى.

 

في اليوم العشرين من رمضان اجتمع الناس وقت الظهر بجامع المؤيد لسماع وعظ الرومي ففوجئوا بغيابه، وعلموا أن القاضي منعه من الوعظ، فاحتشدوا وذهبوا إلى المحكمة للبحث عن القاضي، ففر من كان بها من الخوف ولم يبق إلا القاضي الذي أنكر معرفته بمكان الواعظ، فطلبوا منه أن يركب معهم إلى الديوان ليكلموا الباشا في أمر الواعظ، ويطلبوا منه إحضار الشيوخ الذين أفتوا بقتل الواعظ، «فإن أثبتوا دعواهم نجوا من أيدينا وإلا قتلناهم، فركب القاضي معهم مكرها وتبعوه من خلفه وأمامه إلى أن طلعوا إلى الديوان، سأل الباشا القاضي عن سر حضوره في غير وقته، فحكى له أنه مكره وحكى له ما يريده أنصار الواعظ»، وجد الباشا أن الإصطدام بهذه الجموع أمر غير مأمون فأمر بأن يتم السماح للواعظ بالوعظ ثانية، وعندما صعد الواعظ إلى منبره أخذ يحرض أنصاره على أن يجتمعوا غدا ويذهبوا إلى القاضي لكي ينتصروا للدين ويقمعوا الدجالين، ولم يعرفوا أن الباشا في نفس اللحظة كان قد أرسل إلى كبار الأمراء «يعرفهم مافعله العامة من سوء الأدب وإثارة الفتن وتحقيرنا نحن والقاضي، ولذلك فقد عزمت أنا والقاضي على السفر من البلد، فلما عرف الأمراء ذلك لم يقر لهم قرار»، وأجمعوا رأيهم على التضامن لتخليص البلد من فتنة هذا الواعظ والمتعصبين له أيا كان الثمن لأنه خرج عن حدود الوعظ المقبولة وبدأ يصبح صاحب سلطة يلتف حولها الناس، وفي حين كان الناس يظنون أن هذا الصدام سيكون داميا بسبب قوة أنصار ذلك الواعظ، إلا أن الجبرتي كما روى نشوء ظاهرة هذا الواعظ في صفحتين فقد روى صدامه مع السلطة في كلمات قليلة حكى فيها عن تضارب الأنباء حول مصير الواعظ الذي اختفى فجأة وقيل أنه باع أنصاره وفر من البلاد، ثم قال كلمتين لا ثالث لهما «وسكنت الفتنة»، مما يوحي أن الآلاف الذين تحلقوا حول الواعظ الرومي انفضوا عنه عندما حانت ساعة الجد، لأنه لم يكن يطرح مشروعا لإصلاح أحوالهم الإجتماعية والإقتصادية، بل كان يقود الناس إلى معركة شعاراتية لا تخص مصالحهم، وهي معركة قد تكون مغرية بالفرجة والتعاطف والمؤازرة بل والتظاهر، لكنها لن تكون أبدا مغرية بالموت من أجلها.

 

لذلك صدقني، كثير من هؤلاء الذين يملأون الدنيا الآن ضجيجا وصخبا ظنا منهم أنهم يمكن أن يسيطروا على الواقع بالشعارات الدينية التي يرفعونها، لن تذكرهم كتب التاريخ إلا بما يدعو للسخرية والإحتقار، وربما وجد كثير منهم «جبرتيا» لزماننا يروي للأجيال القادمة وقائع مثيرة للسخرية عن فتنة الواعظ الأهطل.

 

belalfadl@hotmail.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved