فى المدارس الدولية!
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 22 أبريل 2019 - 10:25 م
بتوقيت القاهرة
أفهم أن يتحوّل اسم المدرسة، تاريخها، نظامها، مناهجها، وسير الأعلام الذين تخرجوا فيها.. أداة للتمايز الاجتماعى. أفهم أيضا أن تستغل شهاداتها لإطلاق إشارات المفاضلة بين الموارد البشرية لدى الالتحاق بعمل جديد. لكن ما لا أفهمه هو أن يصبح ما تحصّله المدرسة من مصروفات باهظة سببا كافيا لتصنيفها ضمن أفضل المدارس وأعلاها شأنا، وليس فقط أعلاها سعرا! كأن تتصف بصفات السلع الكمالية التى تستخدم للتفاخر والمباهاة! هذا فلان ابن فلان الذى التحق بالمدرسة الدولية (س) التى تبلغ مصروفاتها فى العام الواحد أعلى من مصروفات جامعة هارفارد فى فصلين دراسيين! هناك ألف سبب لتبرير ارتفاع مصروفات «هارفارد» فى مقدمتها جودة وكفاءة التعليم الذى من آثاره فائض الطلب على خرّيجى الجامعة فى سوق العمل، ومن ثم فائض الطلب على مقاعد الدارسين فى مختلف الفصول والتخصصات، التى لا تمنح فحسب لمن يملك المصروفات، بل يجب أن يمر الدارس على اختبارات شديدة التعقيد حتى يكون أهلا للتعلّم فى تلك المؤسسة التعليمية العريقة ذات التاريخ المستقر من الجودة والنظام.
***
ما أثار حفيظتى هو أن شيئا مما تقدمه تلك المدارس مجنونة المصاريف لا يبرر أبدا تكاليف الالتحاق بها. الخدمات الفندقية والبنايات الفارهة والموقع السياحى كلها مواصفات تصلح لاختيار المسكن أو لقضاء عطلة الصيف، لكنها لا تعكس أبدا تعليما جيدا ولا تربية سليمة. لا يعقل أن يكون القاسم المشترك الوحيد بين غالبية المدارس «الدولية» فى مصر، ومدارس وجامعات التصنيف الأعلى فى العالم هو ارتفاع التكاليف!
بعضهم يبيع مقاعد فى فصول لم تنشأ بعد! تماما كما يفعل المطوّر العقارى الذى يبيع الوحدات السكنية على «الماكيت» بعشرات الملايين، وذلك حتى قبل أن يضرب أساسا واحدا فى أرض المشروع! بعضهم يبيعك اسم مدرسته التى لم تحصل بعد على تراخيص مزاولة النشاط، بل وربما وضعك على قوائم الانتظار فى سبيل تحقيق هذا الحلم. ماذا حققت تلك «المنشأة» تحت التأسيس من إنجازات تعليمية تبرر كل تلك المصروفات؟! ماذا عساه يفعل ذلك المعلّم الذى يتحدث الإنجليزية بلسان بلده، وليس له من خبرات التدريس والتأهيل أى سيرة مبهرة؟! بل لعله تم استقدامه من دولة فقيرة فى شرق أوروبا، لا تملك نظاما تعليميا جيدا على الإطلاق.
الروايات تنهال عليك من عدد من المدارس المنشأة حديثا فى المجتمعات العمرانية الجديدة. روايات عن ضعف المستويين الأخلاقى والتعليمى، عن حالة الاغتراب التى يعيشها التلاميذ عن مجتمعهم الذى يعيشون فيه، بسبب طبيعة المناهج وأدوات التدريس، وعدم الجدية فى تقديم أى منهج وطنى. بعض المدرسين يقومون ــ تحت ناظرى الإدارة وبتوجيه منها ــ بتسريب امتحانات المناهج العربية «الرمزية» إلى التلاميذ، باعتبارها مواد دخيلة لا قيمة لها، ولا علاقة لها بتأسيس وتقييم الطلاب. بعضهم ينتقل إليه طلّاب النظام الوطنى المصرى، فيقسم أولياء أمورهم أن مستواهم التعليمى والأخلاقى قد تراجع بشدة خلال فترة قياسية.
***
النظر إلى المدرسة الدولية وكأنها مشروع استثمارى مربح هو أمر خطير، خاصة إذا اتحد كل من جانبى العرض والطلب على تثبيت تلك النظرة. فإذا كان صاحب المشروع لا يملك أى رؤية إصلاحية للعملية التعليمية، وإذا كان همه جمع أكبر قدر من الأموال فى أقصر فترة ممكنة، فإن ما يكبح هذا النهم حرص نفترض وجوده فى أولياء الأمور مستهلكى الخدمة التعليمية بالوكالة عن أبنائهم. فلولا أن يحرص أولو الأمر على تحصيل أفضل خدمة تعليمية بأسعار مناسبة، فإن أى استثمار بشرى فى الجيل الجديد لن يكون العائد عليه مرغوبا.
كثير من المدارس الدولية فى مصر يمكن تنزيهه عن المثالب آنفة الذكر. من ناحية هناك تاريخ لخريجى تلك المدارس يحتكم إليه إذا ما سأل سائل عن منتَجها البشرى. ومن ناحية أخرى هناك تدرّج فى رفع المصروفات، وربطها بتكاليف فعلية تتحملها الإدارة من أجل المحافظة على جودة خدماتها. وهناك أيضا آلية معتبرة للحوكمة، من خلال امتلاك الطلاب لأسهم فى المؤسسة، تسمح لهم بالمشاركة فى اتخاذ قراراتها المصيرية عبر جمعيتها العمومية.
الإقبال الشديد على إقامة مدارس دولية هو سلوك اقتصادى منطقى، فالأرباح غير العادية التى يحققها رأس المال المستثمر فى تلك المشروعات يجب أن تجتذب الفوائض المتاحة للاستثمار، حتى إذا ما ارتفع المعروض من خدمات تلك المدارس بشكل كبير، تقاسم هامش الربح عدد متزايد من المشروعات، ولم يعد هناك سبب لجذب المزيد من رءوس الأموال. لكن ترشيد هذا السلوك الاقتصادى البشرى يقع العبء الأكبر منه على وزارة التربية والتعليم. تنظيم سوق المدارس الدولية، مع تنوّع الأنظمة التعليمية إلى حد بات مربكا هو هدف لا أتصوره غائبا عن الوزير المجتهد.
***
بقى أن أدعو أولياء الأمور الحريصين على تحصيل أبنائهم لأفضل خدمات تربوية وتعليمية فى مصر، إلى السماح لأنفسهم بالقليل من إعادة التأهيل. هناك سلوكيات كاشفة لأولياء الأمور فى الأندية والحفلات المدرسية لا يمكن أن ينمو معها التلميذ إلا مرتبكا ومشوها نفسيا. فحين يرى الطفل من أبويه سلوكا عدوانيا أنانيا لا يتفق أبدا مع ما يراد له أن يتعلمه فى مدرسته الراقية، لن ينتج عنه أبدا إنسان سوى. فى الأندية يصرخ الأبوان على أطفالهما ليتعلما ألا يخسرا بشرف! وفى الحفلات المدرسية التى يشارك فيها الأطفال بعروض جميلة يقف الوالدان للتصوير والمزاحمة مع حجب الرؤية بشكل كامل على سائر الجلوس، دون أدنى مراعاة للآداب العامة وحقوق الآخرين! أذكر أن إحداهما حينما دعاها ولى أمر كى تجلس حتى يمكنه متابعة العرض، قالت مستنكرة، هذا صف ابنتى فهل أنت حريص على متابعته مثلى؟! وكأن كل ولى أمر مدعو فقط لمشاهدة وتصوير ابنه دون سائر العرض، ليتك بقيت فى بيتك وصوّرته كيفما شئت فى استعراض خاص.
لو أن مدارسنا التى تعلّم أبناءنا وتساهم فى تربيتهم أقامت ورشا للعمل يجتمع فيها أولياء الأمور لتلقّى بعض إرشادات تربوية لتحسين سلوكيات سلبية متفشية، لكان العائد التربوى فى مجمله أكبر على الطفل وعلى المجتمع كله. هناك حبل متصل بين الأجيال ينقل عدوى الفوضى وثقافة «الأنا مالية» وعدم احترام النظام والطابور. هذا الحبل لن ينقطع من تلقاء نفسه، بل يجب ألا ينقطع، فقط ينبغى علينا أن نوثقه على أسس مختلفة من الألفة واحترام الغير. الالتزام الفردى تكلفته ضخمة، لأنه يحرم الملتزم منفردا من حقوقه، ويضيعه تحت أقدام القطيع.
التعليم هو الدعامة الأولى لنهوض الأمم ورقى الدول، وهو الرقم الأبرز فى معادلة المنافسة الدولية على مركز اقتصادى وتنموى متقدم. حتى الحقوق والحريات لا يدركها ولا يسعى إليها ولا يتمتع بها سوى مجتمع متعلّم، على اتساع مدلول هذا اللفظ فى ذاك السياق.