عودة إلى مناقشة موضوع مسلسل فاتن أمل حربي
جيهان أبو زيد
آخر تحديث:
الجمعة 22 أبريل 2022 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
ما بين القول والفعل تُكتَشف الحقائق، وتتبدى المواقف تحت ضوء الشمس جلية بدون غيام أو سحب، واتساع المسافة بين الأقوال والأفعال يحرج هيبة الوعود المصاغة قولا، ويسقطنا فى الفراغ الكثيف، ذلك الفراغ الذى خلفه البيان الصادر عن مركز الفتوى التابع للأزهر الشريف منددا بما حمله المسلسل التلفزيونى الرمضانى (فاتن أمل حربى) من تشويه، واصفا العمل الدرامى بالمتنمر المثير للجدل الهادف إلى تشويه المفاهيم الدينية (بأنانية ونفعيَة بغيضة، تعود آثارها السلبية على استقامة المجتمع، وانضباطه، وسَلامه، ولا عِلم فيها ولا فن).
وعودة إلى الحلقات التى بُثت فالعمل يقدم نماذج لأربعة من الشيوخ، أحدهم الشيخ يحيى المجتهد الخلوق الذى يسعى إلى قراءة النصوص فى بعدها التاريخى مستعينا بأحداث مؤرخة قلما يذكرها علماء الدين ومستشهدا بوقائع وضاءة حول احترام النساء فى عصر النبى (ﷺ) ليحذر مرة تلو أخرى من إسدال الرداء الدينى على الثقافة الشعبية لتمرير أفكار ثقافية مغلوطة لا تمتُّ للدين بصلة. ثم نموذج لصديقه الشيخ الشاب الذى يسعى للشهرة عبر وسائل التواصل الاجتماعى مستعينا بها لبلوغ النجومية التى حظى بها آلاف مؤلفة من الدعاة فى زمن البث العولمى الذى لا تؤطره دولة ولا تسيطر عليه مؤسسة.
تضم الدراما شيخا عالما (الشيخ الصريطى) الذى يشبه كثيرا من الشيوخ المرتادين للشاشات التلفزيونية والذين غمروا وسائل التواصل الحديثة والقديمة معا وتمكنوا من نسج علاقات متينة مع العديد من المؤسسات والدول، الشيخ المخضرم كبير السن محدود الصبر عبر بدقة عن الموقف المتعالى لبعض الشيوخ نحو العامة وخاصة النساء الذين يرونهم فقراء فقهيا ولا يُنتظر منهم سوى الإذعان والطاعة. ثم يظهر الشيخ ريحان بوجهه البشوش وهدوء نفسه وتواضعه الذى يشبه كثيرا من الشيوخ الذين يمارسون تعاليم الدين وقيمه العليا فعلا وقولا.
أتاحت الدراما للشخصيات الدينية الأربع استعراض مبرراتها فى اتخاذ مواقفها المختلفة تجاه قضية الحضانة والطلاق والعنف الزوجى، لكن البيان الغاضب استنكر من الأساس ظهور شيخ معمم ضيق الصدر أو غاضب القول، أو متطلب للشهرة، وتجاهل أمر الآخرين طيبى الحضور متجددى الرؤية، بل خرج البيان بدون تفنيد لأى من الآراء أو المواقف التى اعتبرها تشويها ولم يتوقف لدى أية حادثة تاريخية ذُكرت بالمسلسل ليكشف المغلوط أو المشوه فيها، ولم يجادل فى التفسيرات التى جاءت على لسان الشيخ (يحيى) الذى هو أيضا شيخا معمما ينتصر للحق ويشير بقوة لطريق الفساد ويرفضه ويدعم احترام كرامة الإنسان.
• • •
صدر بيان لجنة الفتوى بالأزهر الشريف منددا بجرم تشويه صورة عالم الدين الإسلامى، أى جرم فى استعراض الأبعاد الإنسانية لعلماء الدين الذين هم وقبل أى شىء بشر غير معصومين، هم بشر طبيعيون يحملون عِلما دينيا قد يرفع البعض لمرتبة ولا يطالها آخرون، هم بشر بدون هالة القداسة التى نفاها الدين الإسلامى عن أى بشرى، هم بشر ومن الحكمة أن تؤكد المؤسسات الدينية على بشرية الشيوخ عوضا عن إعلائهم فوق النقد.
يتناقض بيان لجنة الفتوى تناقضا مذهلا مع فيض الوثائق التى بادر الأزهر الشريف بالإعلان عنها منذ عام 2010 والتى تؤسس فى مجملها لملامح التجديد الفكرى، ففى يونيو 2011 صدرت وثيقة مستقبل مصر والتى أكدت على الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية فى الفكر والرأى، واحترام الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وتأكيد الالتزام بالمواثيق الدولية، واعتبار التعليم والبحث العلمى قاطرة التقدم الحضارى، وفى يناير 2012 أصدر الأزهر الشريف (وثيقة منظومة الحريات الأساسية) لتكون بمثابة نص مرجعى يسهم فى حماية الحريات الأساسية، وحرية الرأى والتعبير، وحرية البحث العلمى، فضلا عن حرية الإبداع الأدبى والفنى. ثم صدرت وثيقة الأزهر لنبذ «العنف» فى 31 يناير سـنة 2013م، والتى أكدت فى بنودها العشر على حق الإنسان فى الحياةِ، وشددت على حُرمَةِ الدِماءِ والمُمتَلكاتِ الوَطَنيَةِ العامَةِ والخاصَةِ، وواجبِ الدولةِ ومُؤسَساتِها الأمنيَةِ فى حِمايةِ أمنِ المواطنينَ وسَلامتِهم وصِيانةِ حُقوقِهم وحُريَاتِهم الدُستوريَةِ، ونبذِ العُنفِ بكلِ صُوَرِه وأشكالِه والتحريض عليه، أو تسويغِه أو تبريرِه، أو التَرويجِ له، أو الدِفاعِ عنه. وفى «إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك» الذى انبثق عن المؤتمر الدولى الذى نظمه الأزهر تحت عنوان «الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل»، فى مارس 2017م. تبنى مصطلح «المواطنة» بدلا من مصطلح «الأقليات» وأدان الإعلان كل التصرفات التى تقوم على التمييز وتتعارض مع مبدأ المواطنة والمساواة، كما أدان كل ما يتعرض له أبناء الديانات والثقافات من ضغوطٍ وتخويف وتهجير، وشدد على تبرئة الأديان كافة من الإرهاب بشتى صوره. وفى عام 2019 وبعد عام ونصف من الجهد المتواصل وقعَ فضيلة الإمام أحمد الطيب والبابا فرنسيس وثيقة الأخوة الإنسانية التى صدرت باسم الأزهر الشريف راسمة خارطةَ طريقٍ لعالم قائم على التسامح والمحبة والإخاء. هذا فضلا عن الوثائق والإعلانات التى خرجت خصيصا للتأكيد على عروبة القدس فى وقت اختبأت فيه أغلب المؤسسات خلف ناصية الصمت.
• • •
تكشف تلك الوثائق أول ما تكشف عن رغبة واضحة فى تجديد الخطاب الدينى وفى تبنى المنهج العلمى والتواصل بين العلوم الدينية والعلوم الإنسانية كعلم النفس والذى أشارت إليه إحدى الوثائق بشكل مباشر. تبعث الوثائق برسائل تفيد ببدء عهد من النقد العلمى القادر على الإنصات عوضا عن التعالى والإنكار، القادر على الجدل الرصين وعلى مناقشة الحجة بغيرها عوضا عن إشهار أسلحة الترهيب والازدراء المعهودين لكل من طرح الأسئلة أو طالب بجدل حميد.
استعانت لجنة الفتوى بالأسلحة القديمة وكان الأولى بها فى زمن تجديد الخطاب الدينى أن تنأى بنفسها عن الاتهامات المرسلة وتفند بصورة علمية مدروسة ما رأت فيه تشويها أو ظلما، كان الأولى بها أن تناقض الحجة بالحجة لا أن ترفع لافتة ممنوع اللمس مُسدِلَة الغطاء المُقدس على رجال الدين الذين هم فى نهاية المطاف بشر يملكون كثيرا من الخير وأيضا بعضا من صفات البشر.