تراجع إنتاج مصر المعرفي.. الأسباب
عماد عبداللطيف
آخر تحديث:
الأحد 23 أبريل 2023 - 12:03 ص
بتوقيت القاهرة
جمعتنى خلال الشهور الماضية لقاءات ودودة مع زملاء من تونس والمغرب والسعودية، تكرر خلالها الحديث عن تراجع إسهام الباحثين المصريين فى إنتاج المعرفة، خاصة فى العلوم الإنسانية والاجتماعية، قياسًا بما كان عليه الحال قبل عقود قليلة. تتنوع دوافع الإشارة إلى مثل هذا التراجع، فهناك قطاع من الإخوة العرب لديهم قلق من أن يؤثر تراجع البحث العلمى فى مصر على الثقل المعرفى العربى عمومًا، انطلاقًا من أن مصر تمثل وزنًا لا يُستهان به فى العالم العربى. فى حين يهتم زملاء آخرون بتأكيد تغير الوزن النسبى لإسهام البلدان العربية فى إنتاج المعرفة العربية. وعادة ما يكون حديثهم عن تراجع الدور المعرفى المصرى، مقرونًا بالإشارة إلى تصاعد دور بلدان عربية شقيقة أخرى، لا سيما فى المغرب العربى ومنطقة الخليج. فهل تراجع بالفعل دور مصر فى إنتاج المعرفة فى العلوم الإنسانية والاجتماعية؟ وكيف يمكن قياس ذلك؟
تحتاج الإجابة عن السؤالين السابقين إلى أدوات دقيقة لقياس حجم الإنتاج المعرفى العربى، ودرجة إسهام البلدان العربية المختلفة فيه. كما تتطلب وجود أدوات تقيس أثر هذه المعرفة إقليميًا ودوليًا. بالطبع قد تختلف هذه الأدوات، وتتباين نتائجها، لكنها قد تكون معبرة عن وجه ما من وجوه الواقع. فعلى الرغم من وجود اختلافات فى التصنيفات العالمية لأفضل الجامعات فى المنطقة العربية، فإنها تشترك فى أن الجامعات المصرية والخليجية تتفوق على نظيراتها فى بلدان الشام والعراق والمغرب العربى بشكل ملحوظ. ومن المعروف أن حجم المعرفة التى يُنتجها أساتذة هذه الجامعات حاسم فى تصنيفها. فى المقابل، فإن الإحالات إلى أعمال الباحثين من بلدان المغرب العربى فى علم مثل اللسانيات تبدو للمطلع أكبر من الإحالات إلى نظرائهم فى المشرق العربى وبلدان الخليج. بما يعنى أن هناك مؤشرات متباينة بشأن الثقل المعرفى، تحتاج إلى فحص دقيق.
• • •
يستند القول بتراجع نسبة إسهام المعرفة المصرية إلى حقيقة صائبة هى اتساع دائرة البلدان العربية المنتجة للمعرفة، وهو ما يعنى بالضرورة تراجعًا فى نسبة الإسهام المعرفى فى البلدان التى كانت تُسهم بالنصيب الأكبر من المعرفة العربية منذ عصر النهضة حتى سبعينيات القرن العشرين وهى مصر وبلاد الشام والعراق. كما يستند القول بتراجع أثر الإسهام المعرفى المصرى إلى حقيقة أخرى هى تآكل قدرات مؤسسات إنتاج المعرفة المصرية مثل الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث على مدار العقود السبع الماضية بسبب مزيج من التسلط، وسوء الإدارة، وهجرة العقول، وضعف الموارد، وتحولات القيم والأخلاق المهنية. فقد أدَّت هذه الأسباب مجتمعة إلى تراجع أولوية إنتاج المعرفة لدى شريحة من الأساتذة لحساب أولويات أخرى مثل زيادة الدخل الفردى، والحصول على مناصب إدارية. ونتج عن ذلك، توقف قطاع من أساتذة الجامعات المصرية عن النشر العلمى، واكتفاء جزء منهم بنشر البحوث التى تحقق الأغراض العملية مثل الترقية، ونحو ذلك. لكن الأمانة تقتضى القول بأن هذا التآكل فى قدرات مؤسسات إنتاج المعرفة المصرية تعرضت له بدرجات مختلفة بلدان عربية أخرى، بما فيها ما يُقدم على أنه مراكز جديدة للثقل المعرفى العربى فى المغرب العربى وبعض دول الخليج.
• • •
إننى أظن أن واحدًا من أسباب القول بتراجع دور مصر فى إنتاج المعرفة فى العلوم الإنسانية والاجتماعية ربما يتصل بتوزيع المعرفة لا إنتاجها. وما أقدمه للبرهنة على هذه الفكرة مستمد من خبرة شخصية، ويتعلق بحقل معرفى واحد هو اللسانيات والأدب والنقد. وهو من ثمَّ، لا يصلح للتعميم. لكنه قد يكون دالا ومفيدًا.
أعمل فى قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة منذ أواخر تسعينيات القرن العشرين. زاملتُ خلال هذه الفترة ثلاثة أجيال من الأساتذة، أولهم جيل الأربعينيات والخمسينيات والستينيات أمثال الأساتذة شوقى ضيف، وحسين نصار، وعبدالمنعم تليمة، ومحمود فهمى حجازى، ونبيلة إبراهيم، وجابر عصفور، وأحمد مرسى، وغيرهم، وثانيهم جيل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات أمثال الأساتذة سليمان العطار، ونصر حامد أبوزيد، وسيد البحراوى، وحسين حمودة، وسامى سليمان، وخيرى دومة، وحسام قاسم، وغيرهم، وثالثهم جيل الألفية الجديدة الذى يشكل فى الوقت الراهن نصف أعضاء القسم تقريبًا.
حين أقارن الإنتاج المعرفى لهذه الأجيال الثلاثة أجدنى أمام حقيقة ساطعة هى أن كل جيل قدَّم إسهامات علمية أصيلة، تنسجم مع ما أتيح له من فترة عطاء. وأن مراكمة البحوث المتميزة لم ينقطع على مدار هذه العقود. كما أن الأساتذة الخاملين كانوا موجودين فى جميع العصور. لكن جيل الألفية الجديدة يجد نفسه فى موقف أصعب من أسلافهم إلى حد ما. فدور النشر المصرية المعروفة يعزفُ بعضها عن نشر الكتب المتخصصة، فى حين لا يتيح البعض الآخر كتبه للقارئ العربى خارج مصر. ويُضطر كثير من الباحثين إلى إصدار أعمالهم فى دور نشر صغيرة على نفقتهم الشخصية، فتقل إمكانية تداول الكتاب عربيًا، ويقل حظهم من الانتشار خارج مصر.
• • •
الأكثر إيلامًا من صعوبات النشر هو تأثر بعض أفضل الباحثين المصريين بالظروف المحيطة بالبحث عمومًا، وأوضاع الجامعات على نحو الخصوص عمومًا، وعزوفهم عن نشر أعمال منجَزة؛ بسبب إحساس عام بالإحباط وافتقاد القيمة. وقد عايشتُ على مدار السنوات العشر الماضية الكثير من حالات العزوف عن النشر أو الانقطاع عن التأليف إما بسبب القيود على الحرية الأكاديمية، أو إحساس عميق بلا جدوى المعرفة، وتحولها إلى عبء نفسى ومادى. وكلما زادت ظروف الحياة صعوبة على الباحثين، وزاد شعورهم بغياب النزاهة والعدل، تراجعت الدافعية للإنجاز البحثى لدى بعضهم. وعلى الرغم من كل هذه الظروف، فإن معظم من أعرف من الباحثين المصريين يقدمون تضحيات كبيرة فى سبيل مواصلة البحث العلمى الجاد، ويُنجزون أعمالا أصيلة تستحق أن تحظى بتقدير كبير فى الوطن العربى بأكمله.