محنة الكتابة النقدية فى زمن الشعبوية الدينية
سامح فوزي
آخر تحديث:
السبت 22 مايو 2010 - 10:18 ص
بتوقيت القاهرة
أعرف كتابا يكتبون ما يسعد قراءهم، وينتظرون تعليقاتهم بشغف، ويقومون بطباعتها، والاحتفاظ بها. الكتابة بالنسبة لهم وسيلة لكسب الجماهير، وبناء قاعدة شعبية. وبعض المخضرمين منهم إذا ألقوا محاضرة ينظرون فى عيون المستمعين أولا، ثم يصبون فى آذانهم ما يريدون سماعه، فترتسم آيات الأعجاب على وجوههم، وتعلو الصيحات تأييدا، وتصفق الأيادى طربا.
وقد يكون فى بث الآراء المتعصبة والجاهلة وسيلة مثلى لكسب تأييد الجماهير بالنسبة لهؤلاء، من هنا لا نستغرب أن نجد من الكتاب وحملة الأقلام من يغذون مناخ التخلف فى المجتمع. بالتأكيد هؤلاء لا يستطيعون قيادة الجماهير، ولا يقدمون من الأفكار ما ينضج وعيها النقدى، بل على العكس يعيدون إنتاج أفكار العوام، ومظاهر التعصب الغريزى فى قالب فكرى يعطى الجماهير الحائرة مبررا لتعصبها، وانغلاقها، وتقهقر وعيها الاجتماعى. ومن الطبيعى أن يعيش الكاتب الذى يريد أن يقدم خطابات نقدية فى محنة حقيقية، يبحث عن قارئ مختلف يريد أن يخرج قليلا خارج شرنقة الأفكار المتداولة، مهما كانت متعصبة ومنغلقة. هؤلاء للأسف قلة.
فى المقال السابق الذى حمل عنوان «أى حوار يرجوه الإخوان المسلمون مع الأقباط» سجلت رأيا نقديا من واقع أدبيات وممارسات الإخوان المسلمين تجاه الأقباط. المنطق يقول إن أجد من يسجل رأيا مختلفا مبنيا على وقائع، مثلما فعلت فى مقالى. أدهشنى أن يترك غالبية القراء فى تعليقاتهم على المقال فى موقع «الشروق» الموضوع بما ورد فيه من معلومات، ويتجهون لإثارة قضايا أخرى سوف نأتى إليها حالا. اللافت أن قراء طالبوننى بالعودة إلى أدبيات جماعة الإخوان المسلمين «الموثقة»، وهو بالمناسبة ما قمت به، لكنهم إزاء هذا الاتهام لم يقدموا دليلا موثقا واحدا ينفى ما ذكرت.
إذا عدنا إلى تعليقات القراء سنجد أنها خليط من تبرير التعصب على الجانب الإسلامى بالحديث عن تعصب مماثل على الجانب المسيحى، وحديث عن نكوص الأقباط عن الدفاع عن أوطانهم من مواجهة العدوان الثلاثى، وتحرير سيناء ووقوفهم فى نفس الخندق مع الجنرال يعقوب الخائن، وانتهاء بموقفهم السلبى تجاه ما يجرى فى دول حوض النيل، واتهام بات شائعا وتقليديا هو استقواء الكنيسة فى مواجهة الدولة والمسلمين، وأنها باتت تطارد أصحاب الرأى والفكر عبر مجموعة من المحامين، وتستغل الأزمات الطائفية، وتذكير بأن أوضاع المسيحيين فى مصر أفضل كثيرا من أوضاع المسلمين فى بعض الدول الأوروبية، وحتى موقف الكنيسة فى مواجهة إسرائيل والتطبيع، تجد الآن من يتهمها بالاستقواء بالولايات المتحدة وإسرائيل. وأخيرا وجد بعض القراء ضالتهم فى اتهام الكاتب نفسه بالتعصب والطائفية.
فى كل هذه التعليقات والاتهامات لم يقترب أحد من موضوع المقال ذاته، تأييدا أو نقدا، بل انصرفوا إلى قضايا تتعلق بالعلاقات المسيحية الإسلامية فى المجتمع بشكل عام، وبعضهم تصور أنه متحدث باسم المسلمين فى مواجهة من يتحدث باسم المسيحيين، وهو الأمر الذى يكشف عن وجود ذهنية طائفية متفشية باتت ترى كل شىء من منظور طائفى، ليس فقط تطورات الحاضر،ولكن أيضا إعادة قراءة الماضى.
فقد بات مطلوبا أن يثبت الأقباط وطنيتهم، وتضحياتهم فى سبيل الدفاع عن مصر إزاء حالة تجريف فكرى لم تعد تميز أو تستند إلى الميراث التاريخى، وقد أدى تآكل الوعى لدى البعض إلى اعتبار الأقباط «وافدين» يعاملون معاملة طيبة مقارنة بأقرانهم «الوافدين» المسلمين المقيمين فى الدول الغربية. أما مسألة أن أبواب الكنائس مفتوحة، وأبواب المساجد مغلقة، والأنشطة تمارس بحرية فى الكنائس (وصفها أحد القراء بالأبراج)، فى حين لا تمارس بالقدر نفسه فى المساجد.
فهذه أحاديث السبعينيات وما تلاها يعاد انتاجها بشكل نمطى، روتينى دون قراءة نقدية لها. أتذكر منذ أكثر من عشرة سنوات اصطحبت أستاذا جامعيا، منتميا إلى حزب العمل المجمد، لأداء واجب اجتماعى داخل الكنيسة. وقد لاحظت أنه كان يتلفت فى كل اتجاه أثناء سيرنا، فسألته عن ذلك فقال لى: كنت أتصور أن المبانى الداخلية أكثر ترتيبا فإذا بى أجدها عشوائية، وكانت لى تصورات بأن الطاقات الصغيرة التى توجد فى الجسم الخارجى لمبنى الكنيسة إنما تخفى خلفها أسلحة أو ما شابه. فابتسمنا، وواصلنا السير.
منطق التعادل يكاد يكون غالبا على الذهنية العامة. إذ وجد متعصب هنا فلابد من وجود متعصب هناك. إننى لا أختلف مع من يقول إن هناك أقباطا متعصبين، فهذا أمر طبيعى من طبائع البشر، أن يوجد معتدلون، ويوجد متعصبون، ولكن ما لا أقبله هو أن نبحث عن التعادل فى كل شىء أملا فى تحقيق التوازن المتوهم.
المشكلة الحقيقية التى يعانى منها الملف الدينى فى مصر أن المواطنين غير متحققين فى مجتمعهم بوصفهم مواطنين. النتيجة المباشرة أن الشخص يعرف بانتمائه الدينى، ويحتمى بالكيان الدينى الذى ينتمى إليه فى حالة الضرورة. الكنيسة صارت معبرة عن الأقباط، ليس لأنها تريد ذلك، ولكن لأن مؤسسات المجتمع الأخرى ظلت لسنوات لا تفسح لهم المجال.
والقضية ليست فى «استئساد» الكنيسة فى مواجهة الدولة، ولكن فى حالة الاحتقان الغريبة التى نعيشها فى المجتمع المصرى التى أدت فى النهاية إلى شعور الأغلبية العددية أى المسلمين بأن هناك تمييزا يمارس ضدهم، وشعور الأقلية العددية أى المسيحيين بأن هناك تمييزا يمارس ضدهم، الكل يصرخ، ولا أحد يسمع للآخر.
تتحدث عن تعصب إسلامى فتسمع من يقول أين التعصب المسيحى؟ تتحدث عن مشكلات فى بناء الكنائس تسمع آخر يقول مساجدنا تغلق بعد الصلاة مباشرة؟ تتحدث عن عدم وصول الأقباط إلى بعض المناصب القيادية فى المجتمع تجد من يقول انظر ماذا يجرى للإسلاميين من تمييز وتعنت؟ تثير قضية احترام العقيدة المسيحية فى وسائل الإعلام تسمع من يقول انظر كيف يتناولون الإسلام فى وسائل الإعلام الغربية؟. واللافت أن هؤلاء الذين يتهمون الكنيسة بتعقب المبدعين، يصمتون، وقد يهللون طربا إذا عوقب مبدع بسبب إنتاجه الفكرى أو الفنى إذا رأى طرف أنه يعادى الإسلام. بالطبع نحن مع حرية الإبداع، وضد المصادرة أيا كان مصدرها، ولكن لا يجب أن نكيل فى ذلك بمكيالين.
الملف الدينى فى المجتمع المصرى بلا صاحب. بمعنى أن الكل يتحدث فيه، ويعتبره مرتعا للمساجلات والشائعات دون أن يتصدى أحد، أو تأخذ هيئة على عاتقها مسئولية تصحيح الأفكار، وإزالة المخاوف. ونظرا لاستمرار مشاعر الارتياب والغضب لدى الطرفين فإن أى مشكلة عابرة تتحول إلى حادثة طائفية، ونظل نعيش عليها لأسابيع نعيد إنتاج الحديث عن التعصب وضرورة التسامح إلى أن تطل علينا قضية أخرى.
نحتاج إلى ترميم الذاكرة المشتركة، نعيد الوعى إلى العلاقة بين المسيحيين والمسلمين، عمقها، وتاريخها، نفرق بين المراكز القانونية والاجتماعية للأفراد، ونعرف كيف أن الأقباط فى مصر ليسوا مثل المسلمين فى أوروبا، رغم التأكيد على أهمية الكرامة الإنسانية لكل شخص أيا كان.
المطلوب حوار جاد فى المجتمع المصرى حول ملف العلاقات الإسلامية المسيحية، يتسلح فيه الطرفان بشجاعة المواجهة، والرغبة فى تطهير الذاكرة المشتركة مما لحق بها من شوائب الطائفية، والتعصب، وسوء التفسير، وشرور المقاصد. لا أعرف يقينا من الطرف الذى يرعى هذا الحوار، ولكن ما أعرفه حتما أن لا أحد ينشغل به، وإذ أظهر البعض انشغالا وقتيا به فقد يكون لأسباب ذاتية عارضة، ومن يدفع الثمن هو الجيل الحالى، أما الاستحقاق المؤجل للجيل القادم فهو أكثر ثقلا مما قد نتصور.