ألوان الخوف واختبارات الحرية
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
السبت 22 يونيو 2024 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
رُويت هذه السيرة الذاتية المتفردة، بمزيجٍ من الصدق والجرأة، وامتلكت صاحبتها بساطةً مدهشة، جعلتها عنوانًا على قدرة الخاص جدا، على أن يكون إنسانيا وعاما جدا، إذا حُكى بصدق، وعلى قدرة دراما الواقع، أن تؤثر وتدعو إلى التأمل، بنفس درجة تأثير الدراما المؤلفة، وربما كانت حكايات الواقع أكثر براعة وجمالًا.
صاحبة السيرة هى السيدة عفاف محفوظ، ابنة المنيا التى حصلت على الدكتوراه فى العلوم السياسية من فرنسا، والتى صارت أستاذة مرموقة فى جامعة حلوان، ثم هاجرت مع زوجها الثانى الأمريكى إلى الولايات المتحدة، ودرست فى معهد التحليل النفسى، وصارت معالجة نفسية محترفة، وناشطة معروفة فى مجال العمل الأهلى، وفى الدفاع عن حقوق المرأة.
صدرت سيرتها عن دار الكتب خان، وكتبها خالد منصور، تحت عنوان «من الخوف إلى الحرية»، مع عنوان فرعى شارح هو «رحلة امرأة مصرية من الصعيد إلى ما وراء المحيط».
لم يقتصر دور خالد منصور، وهو قاص وروائى، على هذا السرد الممتع، ولا على هذا البناء المتماسك لطوفان الذكريات، ولكنه كان المحرض لعفاف على أن تحكى وتروى، وكان قد عرفها كمعالجة نفسية له، إثر نجاته من حادث إرهابى وقع فى العراق، حيث كان يعمل ضمن بعثة للأمم المتحدة.
ومع تعدد اللقاءات، حتى بعد انتهاء كورس العلاج، وجد خالد أمامه شخصية نادرة، تمتلك سيرة مهمة، يجب أن تُكتب، خاصة أنها تمتلك جرأة البوح، وتأمل التجربة، ولم يكن مطلوبًا أن تحكى عن الأحداث الكبرى التى عاشتها، ولا عن الشخصيات المهمة التى اقتربت منها، وإنما أن تحكى ببساطة عن نفسها وظروفها، وعن تحولاتها الفكرية والاجتماعية والنفسية، عبر ثلاث دول هى مصر وفرنسا وأمريكا.
تجاوزت عفاف سن الثمانين، وصارت فى حالة تصالح مع نفسها، مما أتاح للذكريات أن تتدفق، خصوصا بعد أن عرفت أنها تعانى من تليف رئوى، يجعلها قريبة من الموت، ولكنها عاشت لسنوات، فبدأت فى الحكى بكل بساطة وجسارة.
وُلدت عفاف فى أسرة منياوية تنتمى إلى الطبقة الوسطى العليا، وتعرضت لتربية محافظة تقليدية، فأصر والدها على أن تتعلم فى مدرسة للراهبات، لأنهن يعرفن كيف «يشكمن البنات»!
تحكى عفاف عن وسائل القمع والتربية فى تلك الفترة، وعن مشاعر الخوف من العقاب، والإحساس بالذنب، والوشايات المتبادلة وسط البنات فى المدرسة، وعن تمييز تعرضت له لمجرد أنها بنت، فما هو مباح للولد، ممنوع على البنت، ولولا إصرار الأم على أن تكمل بناتها تعليمهن، ما التحقت عفاف بالجامعة. انتقلت عفاف للدراسة فى كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، وهناك اتسع عالمها، ولكنها اقتربت من الإخوان، فعرفت ارتداء الحجاب، رغم معارضة والدها.
حلمت أن تذهب إلى فرنسا لاستكمال دراساتها العليا، وكان ذلك مستحيلًا بمفردها، فجاء الحل فى صورة عريس من أسرة معروفة، يقوم بتحضير الماجستير والدكتوراه فى فرنسا، ووافقت عفاف على الزواج والسفر معا، فى صفقة تعترف بارتكابها، ولكنها كانت صغيرة السن، وبدون تجربة على الإطلاق.
عانت عفاف من هذا الزواج، خاصة مع سيطرة أم الزوج على حياته، ومع اهتمام الزوج فقط بالعلم والدراسة، ولم تغفل عفاف أيضًا حياة جنسية متعثرة، بدأت بصدمة فى ليلة الزفاف، ولكن حياتها الثرية فى باريس، فتحت أمامها أبواب الفن والثقافة، واكتشفت كذلك عالم التحليل النفسى، بل وانتظمت فى متابعة محاضرات العالم الشهير جاك لاكان، إضافة إلى دراستها العليا للماجستير والدكتوراه فى مجال الحقوق، وكانت أمها هى التى تموّل مصاريف هذه البعثة.
ظلت ثنائية الخوف والحرية حاضرة فى فرنسا، وتراجعت عفاف عن طلب الطلاق أكثر من مرة، وظل نجاحها الدراسى والمهنى متناقضًا مع حياة عائلية خاملة وفاشلة، ومعارك مستمرة مع حماتها، بالإضافة إلى فشلها فى الإنجاب، وقد ظلت دومًا تحلم بإنجاب طفلة.
لم تحسم عفاف قرارها، إلا بعد سنوات طويلة، فانفصلت عن زوجها الأول، ثم عرفت الحب مع زوجها الأمريكى الذى تعرفت به فى مصر، وكان يعيش فيها، ويعرف شوارعها وأماكنها، ويجيد لهجتها العامية، ثم انتقلت معه إلى أمريكا، بعد أن فشلت فى التكيف مع مكائد الحياة الجامعية المصرية.
بين واشنطن ونيويورك بدأت عفاف حياة جديدة، ظنت أنها ستبقى هناك لمدة عام، ثم تعود، ولكنها هاجرت نهائيا، واستطاعت أن تدرس فى معهد التحليل النفسى، المغلق تقريبًا على الذكور واليهود، وتحولت السيدة المأزومة، التى عرفت أوقاتًا طويلة من الاكتئاب، بالذات فى سنوات بعثتها فى فرنسا، إلى معالجة نفسية شهيرة، تخصصت فى علاج الاكتئاب، ومساعدة الذين يواجهون الموت - بسبب أمراض لا شفاء منها - على التصالح مع هذه الفكرة، وعلى استقبال النهاية بسلام.
كانت عفاف قد جاءت إلى أمريكا لأول مرة مع زوجها الأول، الذى عين مستشارا ثقافيا فى سفارة مصر فى واشنطن، ومارست وقتها أيضًا نشاطًا ثقافيا مثمرًا بتشجيع كبير من السفير المصرى أشرف غربال، ولكن هجرتها الكاملة، وعملها فى مجال الطب النفسى، ودورها فى مجال العمل الأهلي، ومشاركتها فى مؤتمرات الأمم المتحدة الكبرى، مثل مؤتمر السكان فى القاهرة، والذى اختيرت فيه كمتحدثة رسمية للمؤتمر، كل ذلك يمكن اعتباره مولدًا جديدًا لها، وبداية تصالح كامل مع الذات، وعبور نهائى من الخوف إلى الحرية.
روت عفاف كل شىء دون أقنعة، وبدرجةٍ لافتة من الوعى، ودون تهرب من الأخطاء، أو تضخيم للذات، رفضت ترشيحها وزيرة للإعلام فى مصر، ورفضت أن تُحسب على تيار أو شلة أو حزب، اختارت دومًا أن تكون نفسها، ولم تنس أبدًا لحظات المعاناة والقمع، فلولاها ما ولدت بداخلها فكرة المقاومة والتمرد. حكاية عفاف الصادقة والجريئة عن نفسها، صارت بالضرورة حكاية عن المرأة المصرية خلال ثمانين عامًا، فأهدتنا بذلك واحدةً من أهم وأمتع وأعمق السير الذاتية فى السنوات الأخيرة.