الإمام محمد عبده بين «الأفغاني» و«الطهطاوي»
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 22 يوليه 2023 - 9:50 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
لم يكن الأستاذ الإمام محمد عبده (1849ــ 1905) محض رجل دين، درس فى الأزهر وثقف علوم الشرع وبرز فيها فقط، بل كان مصلحا مجددا ذا رؤية كلية وشاملة للنهوض الفكرى والثقافى والإصلاح الاجتماعى، فضلا على النهوض بالتعليم والتربية الفكرية والوجدانية.. إنه كما يصفه الدكتور محمد جابر الأنصارى بحق «أحد أبرز المجددين فى الفقه الإسلامى فى العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح، وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة، فقد ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده فى تحرير العقل العربى من الجمود الذى أصابه لعدة قرون». وكلما راجعت سيرة الأستاذ الإمام، ورحلة حياته القصيرة التى لم تتجاوز الست والخمسين، تعجبت أشد العجب من هذه الطاقة والحيوية والقدرة على ممارسة هذا النشاط المذهل من درسٍ وتدريسٍ وإقراء، وإفتاء، وتعليم وكتابة للصحف وتحرير المجلات، وتفسير القرآن الكريم، وإحياء التراث الدينى والأدبى ويتجاوز للمرة الأولى فى مناهج الأزهر كتب الشروح والحواشى وحواشى الحواشى والتعليقات.. إلخ ويعود إلى المؤلفات الأصيلة والمنابع الصافية لتراثنا الفكرى والفلسفى والأدبى.. كما بث دعوته الإصلاحية والتجديدية الشاملة فى كل أنحاء البلاد، ويصبح بشخصه وبحضوره وانخراطه فى المجال العام كله نموذجا ونبراسا يهتدى به الحائرون ويستضىء به السائرون، ويبحث عنه أصحاب كل فكر طُلَعة ومتشوق للمعرفة، والانطلاق إلى آفاق المستقبل.
ــ 2 ــ
ولا يفوتنى هنا التنويه بأن هذه الاستعادة لبعض سيرة الأستاذ الإمام وأفكاره الإصلاحية، ونظراته التجديدية التى أشرنا إلى بعضها فى المقال السابق، إنما جاءت بفضل مطالعة كتاب المفكر والمؤرخ وأستاذ الفلسفة اللبنانى الراحل معن زيادة «معالم على طريق تحديث الفكر العربى»، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، وقد وصلتُ قراءة هذا الكتاب بكتابٍ آخر لمفكر كبير أيضا هو الدكتور محمد جابر الأنصارى، وهو كتاب «تحولات الفكر والسياسة فى الشرق العربى (1930ــ1970)، الصادر فى السلسلة نفسها (نوفمبر 1980).
وثمة توافقات أو مشتركات بين الكتابين فى معالجة موضوع البحث عن جذور النهضة العربية الحديثة، والتأريخ لحركة الإصلاح الدينى والتجديد الفكرى والثقافى فى عالمنا العربى. عموما هذا موضوع آخر يستدعى مقالا آخر.
لكننى هنا أقف عند فكرة جوهرية اتفق فيها المفكران العربيان الكبيران، وهى وصل العلاقة بين الإمام محمد عبده (1849ــ 1905) وبين سلفه الأزهرى المستنير الشيخ رفاعة الطهطاوى (1801ــ1873) وكلاهما قد انتبه بذكاء شديد إلى أن الأستاذ الأهم والحقيقى والأعمق تأثيرا فى روح وعقل محمد عبده، خاصة فى منحاه التجديدى، ورؤيته الإصلاحية الشاملة قد استقاه على الحقيقة من الشيخ رفاعة الطهطاوى..
ــ 3 ــ
يبدى الدكتور جابر الأنصارى شجاعة كبيرة جدا فى التصريح بأنه «ليس صحيحا ما شاع لدى دارسى «تاريخ الفكر العربى الحديث» أن محمد عبده (تلميذ) جمال الدين الأفغانى. حقا ثمة أسبقية زمنية للأفغانى بظهوره على مسرح الأحداث بمصر، وكان محمد عبده (الشاب) من المشاركين فى ندواته فى المرحلة الأولى من حياته، إلا أن الأفغانى كان ناشطا سياسيا أكثر من كونه (مفكرا) بالمعنى الدقيق للكلمة، وإلا فأين (فكر) الأفغانى، عدا خطبه السياسية؟!!».
وأظن أن لهذا الرأى وجاهته وتقديره، خاصة أن المفكر والمصلح والمثقف المشغول بهموم وطنه ومجتمعه لا يسير فى مسار خطِّى واحد من البداية إلى النهاية، وإلا ما كان مفكرا ومثقفا على الحقيقة، فبالتأكيد ثمة مسارات لهذا الفكر وتحولات وانتقالات تبدو مفهومة ومعقولة فى تاريخ البعض، وتبدو بلا منطق ولا سبب لدى البعض الآخر!
وأظن أن ثمة اتفاقا بين من أرخوا لحياة الأستاذ الإمام وتتبعوا سيرته بأن هناك مرحلتين متمايزتين فى حياته؛ المرحلة «الثورية» التى تأثر فيها بالأفغانى، وانخرط فى الثورة العرابية وسجن ونفى عقب فشلها، ثم المرحلة الثانية «الإصلاحية» وهى المرحلة التى اقتنع فيها الإمام محمد عبده ــ بعد مرحلة إصدار (العروة الوثقى) فى باريس بمشاركة الأفغانى ــ بأن طريق العمل السياسى قد أصبح مسدودا تماما بمصر، والعالم العربى والإسلامى، وأنه لا بد من النضال على خط الدفاع الأعمق، وهو «التجديد العقلى»، و«الإصلاح الدينى»، والإصلاح التربوى واللغوى والمجتمعى، لأن التخلف الحضارى الذى بلغه المسلمون ــ العرب بخاصة ــ فى ظل الدولة التركية العثمانية، والدولة الفارسية الصفوية، أخطر من أن يعالج بخطابٍ سياسى وبمظاهرات جماهيرية، بينما (الجماهير) على حالها من الأمية والبؤس والاغتراب عن العصر وحركة التاريخ الحضارى للإنسان.
ــ 4 ــ
والإمام محمد عبده فى هذا الطور من أطواره الإصلاحية التجديدية، الذى لا يتجاوز ربع القرن الأخير من القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين، إنما كان تلميذا مخلصا للطهطاوى، ومطورا لأفكاره وموسعا لجهوده ومشروعاته التربوية والتعليمية والتثقيفية.
وقد أشرنا إلى بعض الأفكار التى استقاها الإمام محمد عبده من الطهطاوى فى تحديث التعليم، والتوسع فى إنشاء المدارس، وفى ضرورة إعداد وتأهيل الطلاب منذ المراحل الأولى إعدادا وافيا وشاملا يفى بالمهام المنوطة بهم فى حركة إصلاح مجتمعاتهم. كل ذلك فضلا على تلك الحركة الواسعة التى استهلها الإمام محمد عبده بإحياء التراث العربى، وتجديد اللغة العربية، وتجديد الأدب العربى، وهى الدعوات التى ستجد صداها فى تلاميذه من بعده... (وللحديث بقية).