عودة الاهتمام.. المياه والصراعات الإقليمية فى القرن الإفريقى

قضايا إفريقية
قضايا إفريقية

آخر تحديث: الإثنين 22 يوليه 2024 - 6:25 م بتوقيت القاهرة

استحوذت قضايا الأمن المائى فى منطقة القرن الإفريقى بصفة عامة، وحوض النيل بصفة خاصة، على اهتمام دوائر البحث وصنع القرار فى المنطقة والغرب فى العقد الأخير. وقد دفعت المتغيرات الجديدة -وأهمها توقيع معظم دول منابع النيل على اتفاقية عنتيبى عام 2010 وبناء سد النهضة فى العام التالى- هذه الدوائر للاهتمام بمدى تأثيرها فى توازن القوى فى الإقليم، وفى الأمن والاستقرار الإقليميين. واكبت مفاوضات سد النهضة، خاصة بعد استئنافها عقب توقيع إعلان المبادئ فى مارس عام 2015 جهدا مصريا دبلوماسيا مكثفا، وضع هدف الوصول إلى اتفاق قانونى ملزم حول ملء وتشغيل السد على أجندة مباحثات القيادة السياسية ومسئولى الخارجية المصرية مع جميع المسئولين من المنطقة وخارجها.

بعد فشل جولات التفاوض برعاية أمريكية لجأت مصر إلى مجلس الأمن الدولى فى يونيو 2020 لمناقشة هذا الأمر باعتباره مهددًا للسلم والأمن الإقليميين، مع استمرار محاولات التوصل إلى اتفاق عبر وساطة الاتحاد الإفريقى. وبعد الملء الثانى المنفرد للسد، عرضت مصر القضية مرة أخرى على المجلس الذى أصدر بيانًا رئاسيًا فى سبتمبر 2021 يدعو الدول الثلاث إلى الانخراط فى المفاوضات بشكل بناء للوصول فى إطار زمنى معقول لاتفاق ملزم حول ملء وتشغيل السد.

على صعيد القوى الغربية، اهتمت الإدارة الأمريكية السابقة (إدارة ترامب) بالوصول إلى تسوية لهذه القضية نتج عنها بالفعل بعد عدة جولات من التفاوض اتفاق أولى وقعت عليه مصر بالحروف الأولى فى فبراير 2020، ورفضت إثيوبيا التوقيع عليه بحجة الحاجة إلى مزيد من الوقت للتشاور، بينما فضلت السودان عدم التوقيع عليه. وقد مارست الإدارة الأمريكية بعض الضغط الرمزى بتعليق جزء يسير من المساعدات لإثيوبيا لموقفها المتشدد فى المفاوضات، واستغلت الحكومة الإثيوبية هذا الموقف للادعاء بخضوعها لضغوط للتوقيع على الاتفاق. وعلى جانب آخر، ركز الاتحاد الأوروبى على التعاون الفنى فى مجال المياه بناءً على قرار أثار الجدل حين صدوره عام 2017 بدعم مبادرة حوض النيل ماليًا وفنيًا والتعاون مع مصر -التى علقت عضويتها فى المبادرة عام 2010 احتجاجًا على توقيع معظم دول المنابع على اتفاقية عنتيبى- بشكل منفرد. إلا أن تعثر مفاوضات سد النهضة واتجاه إثيوبيا إلى ملء السد دون الوصول إلى اتفاق مع دولتى المصب دفع الاتحاد الأوروبى إلى إصدار بيان فى يوليو عام 2021، يعرب فيه عن أسفه للملء الثانى المنفرد، كما عرض أن يقوم بدور أكبر فى المفاوضات من كونه مراقبًا. وأشار البيان إلى أن مثل هذا الاتفاق يمكن أن يفتح آفاقًا للاستثمارات الخارجية لدعم الأمن المائى والغذائى وأمن الطاقة فى المنطقة. كما ظهر المضمون نفسه فى البيان المشترك للخارجية المصرية ومنسق السياسات الخارجية للاتحاد الأوروبى فى ختام الاجتماع التاسع للمجلس المصرى الأوروبى فى لوكسمبورج فى يونيو 2022.

رغم فشل الجولات الأخيرة للتفاوض فى أواخر عام 2023 واستمرار إثيوبيا فى الملء المنفرد للسد، فإن العامين الماضيين قد شهدًا تراجعًا للاهتمام الدولى بقضية سد النهضة وقضايا المياه فى المنطقة على وجه العموم. فقد تبنت إدارة بايدان موقفًا أكثر إحجامًا عن الوساطة المباشرة فى مفاوضات سد النهضة، وأبدت اهتمامًا أكبر بالصراعات الداخلية فى إثيوبيا مع اندلاع الحرب الأهلية فى إقليم التجراى فى نوفمبر 2020. ويبدو أن الجانب الأوروبى قد اتخذ الموقف ذاته بعد رفض إثيوبيا أكثر من مرة الاقتراح السودانى -الذى أيدته مصر ورحب به الاتحاد وفقًا لبياناته سابقة الذكر- بتوسيع الوساطة فى المفاوضات لتشمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة بجانب الاتحاد الإفريقى.

• • •

رغم هذه التعقيدات فإن هناك عدة أسباب تدعو إلى عودة الاهتمام الدولى بملف المياه فى منطقة القرن الإفريقى بصفة عامة، وبسياسة إثيوبيا كدولة منبع على عدد من الأنهار الدولية بشكل خاص، ويمكن إجمالها فيما يلى:

أولًا: إن السياسة الإثيوبية بإنشاء مشروعات على أحواض الأنهار الدولية التى تنبع من أراضيها دون التشاور مع الدول الأخرى ودون إجراء دراسات التأثيرات البيئية والاجتماعية لهذه المشروعات قد أصبحت سياسة متكررة ونمطًا سائدًا لا يقتصر على حوض النيل فقط، وإنما يمتد إلى الأنهار الأخرى. وقد أصدر معهد ستوكهولم الدولى لأبحاث السلام (سيبري) ورقة سياسات مهمة عام 2020 بعنوان «الأمن المائى وإدارة المياه فى القرن الإفريقى» تناولت سياسة إثيوبيا فى حوض نهرى «جوبا وشبيلى» وكيفية تأثيرها فى الأمن المائى والغذائى فى الصومال. وقد أكدت الورقة أن الخطط التى طورتها إثيوبيا عامى 2005 و2007 لإنشاء مشروعات للرى وتوليد الطاقة الكهرومائية فى حوض «جوبا-شبيلى» يمكن أن تستخدم كل المياه المتاحة فى الحوض تقريبًا وتؤدى إلى تأثيرات سلبية بالغة فى الصومال، والتى يعد الجزء الواقع من الحوض فى أراضيها سلة غذائها.

يرصد التقرير أن إثيوبيا لم تخطر الصومال بإنشاء هذه السدود بحجة أنه لم توجد حكومة مستقرة فى الصومال فى ذلك الوقت. ورغم أن إثيوبيا قد اعترضت على خطة مشروعات صومالية قدمت للبنك الدولى فى الثمانينيات بحجة أنها يمكن أن تنشئ حقوقًا مكتسبة للجانب الصومالى فى مياه النهر فى الوقت الذى لا توجد فيه اتفاقية تنظم استغلاله، فإنها رفضت التقيد بأى قواعد فى استغلالها للنهر فى العقدين الماضيين.

ثانيًا: إن التهديدات للأمن المائى نتيجة المشروعات الإثيوبية لها تداعيات مباشرة على الأمن الإنسانى فى دول المنطقة. وقد بدأت بعض التقارير الاستقصائية رصد تأثيرات سد النهضة فى السودان، وهناك حاجة إلى تقارير وأبحاث مماثلة حول تأثير السدود الإثيوبية فى نهرى «جوبا وشبيلى» فى الأمن الغذائى والإنسانى فى الصومال. وقد أشرت فى مقال لبرنامج حلول للسياسات البديلة إلى أن هناك حاجة إلى دراسة التداعيات الاجتماعية والإنسانية لسياسات المياه التى اضطرت الحكومة المصرية إلى تبنيها لمواجهة الشح المائى الحالى والتداعيات المحتملة لسد النهضة.

ثالثًا: إن قضايا الأمن المائى تتقاطع مع العديد من الصراعات الإقليمية فى المنطقة، ويتم تسييسها بشكل واضح، فتكون أحيانًا عاملًا إضافيًا يؤثر فى علاقات متوترة بالأساس أو يحفز سياسات معينة لبعض القوى. وتوضح ورقة معهد ستوكهولم السابق الإشارة إليها أن السياسة الإثيوبية تجاه الصومال قامت على مبدأ فرق تسد لإضعاف الدولة الصومالية واستمرار السيطرة على الموارد المائية المشتركة التى تنبع من الأراضى الإثيوبية. ومن الواضح أن هذا المبدأ الذى يعتمد على تقوية حكومات الأقاليم على حساب الحكومة الفيدرالية لا يزال يحكم السياسة الإثيوبية تجاه الصومال ولا أدل على ذلك من التفاهمات الإثيوبية الأخيرة لإقامة قاعدة عسكرية فى أرض الصومال. ومن ملامح تسييس المياه أيضًا استخدام المياه أو التلويح باستخدامها كورقة ضغط فى المفاوضات. وقد أشار تقرير لمجموعة الأزمات الدولية عام 2021 حول الصراع الحدودى حول الفشقة بين إثيوبيا والسودان إلى تقاطع هذا الملف مع مفاوضات سد النهضة.

رابعًا: إن الأطراف ذات المصلحة فى هذه المنطقة وذات التأثير فى تفاعلاتها تتزايد بشكل يؤدى فى الغالب إلى تعقيد هذه الصراعات. ومن ذلك دور بعض القوى الخليجية فى دعم نظام آبى أحمد فى حربه فى التجراى، والدعم الصينى لمشروعات السدود الإثيوبية على الأنهار الدولية.

خامسًا: إن التغير المناخى سيؤدى إلى زيادة حدة قضايا الأمن المائى، وبالتالى تزايد احتمالات الصراع حوله فى المستقبل. فهناك اختلاف بين الباحثين بشأن معدلات هطول الأمطار فى منطقة القرن الإفريقى وحوض النيل، لكن المتفق عليه هو زيادة الظواهر المناخية الحادة أى فترات الجفاف الشديد والفيضانات، وهو ما يفسر حرص المفاوض المصرى على الاتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة فى هذه الفترات.

راوية توفيق

المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية

النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved