المخاطر العالمية.. من يديرها ومن يتحاشاها
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 22 يوليه 2024 - 6:25 م
بتوقيت القاهرة
عندما تعرّض العالم للأزمة المالية العالمية فى أغسطس عام 2007، كانت أكثر الدول تضررا تلك التى تمتلك أسواق مال نشطة منفتحة عالية السيولة، وتلك التى تمتلك صناديق استثمار عملاقة، فى حوزتها أوراق مالية من أسهم وأدوات دين ومشتقات مالية موزّعة بين مختلف الأسواق الكبرى.
فى تلك الأثناء كانت مصر من بين الدول التى أعلن مسئولوها أنها لم تتأثّر بالأزمة، وأن بورصتها فى مأمن من تلك التداعيات، وأن جهازها المصرفى لم يتعرّض لأى أضرار. وعلى الرغم من التحفّظ الضرورى على ذلك الإعلان، بحكم ما لابد أن تتعرّض له كل الأسواق والمؤسسات من تداعيات عبر قنوات العدوى المالية، التى تصل فى صورة موجات تسونامى، ربما تتأخر قليلا، لكنها حتما آتية ــ فإننى لم أختلف مع فحوى ومضمون ما أعلنه المسئولون حينذاك، بل إننى كثيرا ما أستعين به، فى محاضراتى ومؤلفاتى، لشرح الفارق الجوهرى بين إدارة المخاطر Risk Management وتجنّب أو تحاشى المخاطر Risk Avoidance ولكل من السلوكين أثر شديد التباين.
إذا كانت أسواق المال والنقد فى مصر قد تجنّبت الآثار السلبية لأزمة الرهون العقارية، وانفجار فقاعة التمويل العقارى فى الولايات المتحدة، وتساقط مؤسسات كبرى مثل «ليمان برازرز» و«بير ستيرنز» فى بضع جلسات تداول .. فإنها أيضا لم تحصل على العوائد الإيجابية التى تحققت عبر سنوات لمؤسسات ودول أصدرت وتداولت الأوراق المالية المستندة إلى رهون Mortgage Backed Securities (MBS). الكثير من المشتقات المالية مثل عقود الخيارات والعقود المستقبلية وعقود المبادلة.. وغيرها، تستخدم للتحوّط ضد تقلبات أسعار الورقة المالية أو المنتج الذى تشتق منه. تلك العقود والمنتجات المالية أصبح لها سوق تداول مستقلة، تحقق المكاسب للمتعاملين فيها بغض النظر عن أهداف التحوّط التقليدية، التى تمارس فيها تلك الأدوات دورا مشابها لوثائق التأمين ضد مخاطر الحوادث بالنسبة للأشخاص والممتلكات.
وإذ كانت مصر من أعرق الدول التى عرفت تداول العقود الآجلة على ذهبها الأبيض (القطن) فى بورصة ميناء البصل بالإسكندرية منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، فإنها لم تستعد قدرتها على إصدار وتداول المشتقات السلعية ومشتقات الأسهم حتى يومنا هذا، على الرغم من تعدد محاولات استحداث بورصة للمشتقات، وإعادة إحياء البورصة السلعية، التى كما ذكرنا فى مقالات سابقة، مازالت بورصة عقود حاضرة، ولا علاقة لها بالمشتقات.
• • •
إدارة المخاطر تستلزم خوض التجربة وتقدير احتمال الإخفاق والخسارة، ومن ثم تعظيم العائد والربح. أما تجنّب المخاطر فهو بمثابة قتل للفرصة، وخسارة حتمية لجميع المكاسب التى يمكن أن تنتج عنها. مثال ذلك، تتعرّض بورصات العالم لموجات من الخسائر التى يعزز من تسارعها التعامل وفق آلية البيع على المكشوف Short Selling. لكن تجنّب تلك المخاطر لا يعنى عدم تنظيم هذه الأداة الهامة، التى لابد من تفعيلها جنبا إلى جنب مع آلية الشراء بالهامش ليتوازن السوق فى حالتى الصعود والهبوط. صحيح أن الجهة المنظّمة للسوق فى الولايات المتحدة SEC عادة ما توقف التعامل بالبيع على المكشوف فى وقت الأزمات الحادة منعا لاستمرار التهاوى، لكن هذا يكون لفترات محدودة، وكنوع من إدارة الأزمة، التى سرعان ما تزول ويعود التعامل وفق تلك الآلية من جديد.
ما ذكرناه من تفاصيل يعنى بها المختصون بشكل خاص، يمكن أن ينسحب على العديد من أوجه النشاط البشرى. السيارات مثلا، تخيّل لو أن دولة ما قررت ألا تسمح بسير السيارات فى الشوارع والطرق خوفا من الحوادث القاتلة! أو أن دولة ما قررت عدم استخدام الحاسب الآلى خوفا من أعمال السطو الإلكترونى! وهذا المثال الأخير يقودنا إلى حادث جديد وقع فى التاسع عشر من يوليو الحالى، وكانت مصر من بين أقل الدول تضررا من تداعياته السلبية.
عندما ضرب العالم خلل إلكترونى ناتج عن تحديث لبرنامج الحماية السيبرانية الشهير Crowdstrike تعطّلت بعض البورصات، واضطرت الطائرات إلى الهبوط، وتوقفت بعض أنظمة المؤسسات المالية والمصرفية والإعلامية.. ثم صدرت البيانات تباعا لتؤكد أن مصر فى مأمن من تلك «الهجمات». وبعد أن تبيّن أن الأمر ليس فيه هجمات سيبرانية وأنه يتصل بالبرنامج المشار إليه، والذى عادة ما يتم تثبيته مع نظام التشغيل الأحدث لشركة مايكروسوفت، تم تعديل البيانات الصادرة عن بعض المصالح والوزارات المصرية، ليؤكد أننا فى مأمن من ذلك الخلل. بصدور هذه الإعلانات فإننا بصدد عدد من الاحتمالات: أننا نمتلك نظم تشغيل وبرامج حماية أفضل من تلك التى تمتلكها مطارات وبنوك الغرب المتقدّم، أو أنها نظم وبرامج مختلفة لكنها أقل جودة وكفاءة وحداثة وبعضها غير مرخّص، أو أنها نظم تم التحوّط فى تثبيتها وتشغيلها ضد هذا النوع من التحديثات المفاجئة.. لا يمكن حسم تلك الاحتمالات اليوم فى ضوء المعلومات المتاحة، وربما كانت الحقيقة مزيجا منها جميعا.
الراجح أن تلك النظم الحديثة على عيوبها ومشكلاتها النادرة، لابد أن تحقق العديد من المكاسب فى 95% تقريبا من الحالات، وأن ما يقل عن 1% من المشكلات يمكن أن تكون خطيرة، وهذا لا يدفعنا أبدا إلى تجنّب التعامل بها، ولكن يدفعنا إلى التفكير فى كيفية تطويرها وإدارة مخاطرها بما يسمح بتعظيم الاستفادة منها. هذا النوع من الأزمات هو بمثابة إنذار كاشف لطبيعة الأنظمة التى تستخدمها مختلف الدول، ومدى تكاملها واتصالها بالأنظمة عبر المحيطات، ومدى تأثرها (إيجابا وسلبا) بتيار العولمة والتحوّل التقنى والرقمى.
• • •
فحينما ضربت العالم أزمات كورونا والحرب الروسية ــ الأوكرانية وحرب غزة، أكّدنا على أن الكثير من التداعيات الاقتصادية السلبية فى مصر هو نتاجها، وكان ذلك دالا على مدى اتصال مصر بالنظام العالمى وانفتاحها على مختلف الأسواق. هذا أمر لا يقبل التجزئة، فإما أننا منفتحون متصلون، أو أننا منغلقون منكفئون حول ذواتنا. لكن المقلق أن نكون فى منزلة بين المنزلتين، فنتضرر أشد الضرر من الوفورات السلبية لما يحدث فى العالم، ونأمن من الوفورات الإيجابية التى تنفجر فيها بعض الأزمات المؤقتة.
وإنى أثمّن الاتجاه المصرى الرسمى بعدم السماح بتخزين البيانات الحيوية خارج الدولة عبر الخدمات «السحابية» الشهيرة، مؤمنا بأن اقتناء هذا النوع من المعلومات فى «خوادم» داخل الأراضى المصرية هو أمر ضرورى لاعتبارات الأمن القومى، ولو كان بتكلفة إضافية. وقد كنت شاهدا على تطوير بعض التشريعات التى تتناول خدمات النقل الذكى، أو الإتاحة المعلوماتية، وكنت أحد المسئولين عن التحوّل الرقمى فى قطاع الأعمال العام، وعلمت أن متخذ القرار المصرى كان شديد الحرص على امتلاك المعلومات، وعدم التفريط فى حيازتها تحت أى مبرر، وهو الأمر الذى عطّل التوافق التشريعى لمعظم أنظمة تشغيل النقل الذكى. هذا القرار المصرى الواعى هو نوع من إدارة المخاطر وليس تجنّبها، لأنه جاء بعد تصنيف وتقدير للمخاطر، والتأكد من أن الضرر المحتمل يفوق أى منفعة أو عائد. هذا مفهوم جدا فى عصر المعلومات، التى صارت مكمن القيمة ومخزنها الأهم.
الكثير من الأنظمة التقليدية اليدوية، والأعمال المكتبية غير الرقمية تعد فى مأمن من أضرار الأعطاب التقنية، بل هى فى مأمن من أعطال الكهرباء! لكن هذا لا يؤهلها للإحلال محل التكنولوجيا الحديثة، التى هى أكفأ وأسرع وأكثر أمانا مما سواها. لكن الهرولة خلف كل ما هو مستحدث ليس سلوكا حميدا، بل إن الكثير من المخترعات والمكتشفات الحديثة لا يفضّل تجربتها إلا بعدما يستقر استخدامها، وتثبت كفاءة فى الأداء والصيانة، ومناسبة لطبيعة عمل ومناخ الدولة محل التجربة.