أن أستمتع معهم قبل أن يذهبوا
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 22 أغسطس 2018 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
تكثر فى خطابات المسئولين العرب الإشارة إلى دور الشباب وأهمية إشراكهم فى مراحل أخذ القرار جميعها، لا سيما أن فئة من هم دون سن الثلاثين يمثلون أكثر من ثلث الشعوب فى البلاد العربية. وبعيدا عن تطبيق تلك الدعوات فعليا، إذ أن أغلب استطلاعات الرأى التى ترصد مواقف الشباب تشير إلى عدم رضاهم، أى الشباب والشابات، بالمساحة التى يشعرون أنها مخصصة لهم، وعدم اقتناعهم بأن تطلعاتهم ومطالبهم تدخل بشكل جدى فى الخطط الوطنية. الحديث يطول عن دور الشباب المزعوم فى الخطابات الرسمية وبين دورهم الفعلى، لا سيما فى بلاد تضيق على الحريات عموما بما فى ذلك حرية التعبير، وهى أول خطوة تسمح للشباب والشابات بأن يفصحوا عن رأيهم وموقفهم أصلا، الحديث يصيبنى بالملل بصراحة فى ظل شح الفرص التى يراها الشباب وضيق الأفق التى كثيرا ما يعبرون عنها بما فى ذلك فى الأغانى الحديثة وفى الفنون المختلفة.
***
أنا بصراحة مهتمة أكثر بالاستماع إلى «الحكماء»، وأعنى بذلك الأكبر سنا. أنا مهتمة بمراقبة ما يحدث من تغيير فى حياتهم اليومية بعد أن يتقاعدوا، مع افتراض أنهم فى حالة صحية جيدة تسمح لهم بحياة يومية طبيعية. أنا مهتمة برأيهم فى موضوع اشتراكهم، فى فترة شبابهم، بصنع القرار وبالفضاء العام. أنا مهتمة بإجابتهم على سؤال حول اليوم الأول بعد التقاعد: كيف الحال؟ فى عطلة نهاية الأسبوع، والمرتبطة تماما بأيام العمل، كيف تكون؟
تساءلت خلال رحلة قمنا بها معا إلى عاصمة أوروبية عن سبب وجود هذا العدد الهائل ممن هم فوق سن الستين فى الشارع وفى المتاجر وفى الحدائق، فأجابنى زوجى بطبيعية: لأن من هم فى سن العمل والدراسة تجدينهم فى العمل والمدرسة أثناء ساعات النهار. طبعا، لماذا لم أفكر بذلك؟ ربما لأننى لم أعتد فى القاهرة أو فى دمشق أن أرى كبار السن يتحركون قربى فى الفضاء العام. لم أعتد أن يكونوا أمامى فى الطابور عند البقال أو فى حافلة النقل العام. قد أصادف أحدهم أو أكثر لكنى لم أفكر فيما هم أكبر بالسن خارج نطاق البيت والبركة التى يقال إنها تحيط بهم.
***
أما أصدقائى من الحكماء، فهم فى عرفى جزء من محيطى ولا ينطبق عليهم تعليقى عن كبار السن. ما مناسبة كل هذه المقدمة؟ ربما المناسبة هى أننى بدأت ألاحظ توجه بعض الشباب إلى بلقب «خالة»، أو قيام أحدهم من مكانه على الحافلة حتى أجلس. ربما لأننى ألتقى فى الصيف بأشخاص قد لا أراهم خلال السنة أو لم أرهم منذ سنوات فيبدو لى أنهم لم يتغيروا أبدا ثم أعود فألاحظ أننا نتحدث عن أمور عاصرناها منذ قرابة العشرين عاما، مم يعنى أننا قطعا قد تغيرنا فى عيون الآخرين.
متى ننتقل من مرحلة عمرية إلى أخرى؟ لماذا لا نشعر بعملية الانتقال فنحن ننتهى من كتابة فصل فى كتاب ثم نشرع فى كتابة الفصل التالى؟ أظن أن عملية الانتقال أشبه بما يحدث حين يحشر أحدنا زهرة بين صفحتى كتاب سميك ثم يعود إليها بعد الانتهاء من القراءة، فيجدها قد التصقت على صفحات سنوات مضت وفقدت بعضا من لونها لكن لم تفقد لونها بالكامل. أفتح الصفحة بتأن وأتذكر يوم قرأت ذلك الفصل وعلقا على هامش الصفحة ثم تركت الزهرة هناك. ها هى قد جفت بتلاتها دون أن تفقد من تناسق الورق مع العود رغم تغيير طفيف طغى عليها.
***
لا أخفى أن موضوع التقدم فى العمر يشغل حيزا كبيرا من تفكيرى، ليس لأننى أحلم بشباب دائم إنما لأننى أتساءل دوما عن طريقة تبقى كل المراحل شيقة، وتخلق فى ذاكرتى فصولا من القصص وألبومات من الصور. أنشغل خصوصا بفكرة يرددها الكثيرون من حولى وهى « تمتعى بما لديك (الأطفال أو العمل أو الأصدقاء) قبل أن يذهبوا (بمعنى أن ينتقلوا إلى مراحل أو أماكن أخرى). لا أعرف لم يحتاج البعض أن يذكرونى بما أراه أنه بديهيا: الحياة عبارة عن أيام متوالية وأحداث نمر بها قد تغير أشياء مهمة فى حياتنا. أن نتمتع بها أو لا هو موضوع نسبى. ما أريده ربما هو أن ألتفت إلى فصول سابقة من كتابى وأجد داخل كل فصل منها زهرة جفت أوراقها فأتمعن فيها فى محاولة لفك أسرار حفظتها الزهرة ونسيتها أنا.
ربما هذا ما يعنيه من ينصحنى بالاستمتاع بالأمور فى وقتها، وربما ردى عليهم هو التقاطى لصور على طريقة آلة التصوير البولارويد القديمة التى تظهر صورا فورية تؤرخ اللحظة: أضع كل صورة فى فصل من الكتاب وأقرأ الفصل التالى، حيث أحشر زهرة لتجف. فى يوم ما سوف أعود إلى الصور والزهور، وإلى عشرات التعليقات التى سجلتها فى حواشى الكتاب فأتذكر مواقف وضحكات ووجوه. أتمنى ألا أنظر إلى الخلف فأرى ما حذرنى منه الآخرين: أريد أن أطوف الحياة بيدى فأشعر أننى أمتلكها، لا أنها تفلت من بين أصابعى كالماء بينما أنشغل أنا بأشياء أخرى. أريد أن أفتح كتابى فأتذكر اسم كل شخص التقطت له صورة ورائحة كل زهرة جففتها بين الصفحات.
وقتها سوف أكتب فى هامش إحدى صفحات الفصل الأخير: أنا استمعت بوجودهم وهم لم يذهبوا.