التحرش بدل الحوار!
سلامة أحمد سلامة
آخر تحديث:
الأربعاء 22 سبتمبر 2010 - 9:24 ص
بتوقيت القاهرة
يحتشد الرأى العام هذه الأيام بأشكال وألوان من التحرش الذى لم يعد يقتصر على التحرش الجنسى الذى يفجره الغوغاء والمراهقون فى زحام الشوارع، بل أضيفت إليه ألوان من التحرش اللفظى والجدل الذى لا يفضى إلى نتيجة بديلا عن الحوار، والذى تتبارى أطرافه فى حشوه باللغو والسباب والتهكم والاتهام المتبادل.. على صفحات الصحف أو شاشات التليفزيون أو وسائل الإعلام المختلفة على الإنترنت والفيس بوك وغيرها. يكفى أن يقول أحدهم كلمة أو عبارة تُنتزع من سياقها لتثير زوبعة هائلة تفجر سيولا من الغضب والاتهامات التى تنتهى فى كثير من الأحيان إلى النيابة العامة والمحاكم. ويتحول المجتمع كله إلى جماعة للطرشان. لا أحد يسمع ما يقوله الآخر وإذا سمعه فإنه يفهمه على محمل السوء ويصر عليه.
وهذا بالضبط ما حدث عندما روى هيكل فى الحلقة الأخيرة من برنامجه الشهير «مع هيكل» على قناة الجزيرة بعض الملابسات التى أحاطت بوفاة الزعيم الراحل عبدالناصر، والشائعات التى ترددت حول الرئيس السادات. وقد حسم هيكل هذه الشكوك بشأن اغتيال عبدالناصر ونفى أى دور للسادات. ولم يأت ذكر هذه الملابسات من فراغ أو لمجرد الرغبة فى التشهير، فقد كانت هناك قوى معادية ــ إسرائيل وأمريكا ــ لا تخفى عداءها لعبدالناصر ورغبتها فى التخلص منه. وكانت الوفاة المفاجئة لعبدالناصر سببا فى هذه الشائعات.
كان من الممكن أن تمر هذه القصة ضمن كثير من التفاصيل التى يرويها هيكل فى حلقاته، دون أن تهب هذه الأعاصير من جانب بعض الأقارب وكذابين الزفة والباحثين عن أسباب «للشعبطة» فى أذيال هيكل. فتاريخ مصر فى هذه الفترة ملغوم وملتبس يصعب فرزه. ولن تعرف ــ فى رأيى ــ أسراره قبل نصف قرن على الأقل. وحين يرفع الستار عن هذه الحقبة ويفرج عن وثائقها فسوف نتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
وخذ مثالا آخر على إعصار الشماتة الإعلامية التى هبت على «الأهرام» بسبب التلاعب فى صورة ملونة للرئيس مبارك بأساليب الفوتوشوب، لتضعه فى مقدمة فريق المفاوضات فى واشنطن، إيحاء من المحرر بأن الدور الذى تلعبه مصر فى مفاوضات السلام المباشرة دور محورى مركزى يكاد يفوق دور الرئيس أوباما نفسه.
ولا أظن أن هذا التصرف رغم سذاجته والذى أصبح فى عيون الصحافة المتربصة والمنافسة خطيئة لا تغتفر، كان مقصودا بحد ذاته أو مطلوبا من جهة عليا أو من عقل سياسى حصيف يدرك تأثير الإعلام على الجماهير. فلا أساليب التأثير الإعلامى أو التضليل الإعلامى يمكن أن تنصح بذلك، أى بالتلاعب فى صورة تعكس واقعا عالميا تم نشره فى جميع أنحاء العالم.
وبقدر ما ينطوى عليه تزوير صورة من خطأ مهنى لا يقبل العذر، إلا أنه فى نهاية الأمر انعكاس لأوضاع فى الصحافة المصرية والعربية التى لا تحفل كثيرا بالدقة والموضوعية. مع استسهال غير مأمون فى صياغة الخبر أو القصة الصحفية. ولقد كان من الطبيعى أن يحدث هذا الخطأ ردود فعل حادة، تجاوزت فى بعض الأحيان ما يقتضيه العرف الصحفى من التماس العذر للمناخ العام الذى تتنفس فيه الصحف الحكومية.
وانظر مرة أخرى إلى الجدل العقيم الذى يثيره مسلسل «الجماعة»، والذى خرج من نطاق النقد لعمل درامى ذى أبعاد سياسية، إلى عمل سياسى ذى أبعاد درامية. تتبادل فيه الأطراف اتهامات التخوين والتهديد والتكفير والتبعية والعبث بالدين فى خدمة السياسة. ويحق للمرء حينئذ أن يتساءل: هل تفيد الدراما بهذه الصورة فى تربية الوجدان العام لهذا الشعب وتزويده بالمعارف الأساسية التى تشكل الأساس السليم لفهم ما يجرى فى وقتنا الحاضر من خلافات سياسية ودينية، توشك أن تغلق طريق التفكير والإبداع الذى يفضى إلى الحرية أمام أجيال حائرة بائرة؟
فى كل ذلك تظل المشكلة المحورية ــ فى رأيى ــ هى انزلاق الصحافة والرأى العام إلى مزيد من المحلية وانعدام الرؤية خارج ما تدركه الحواس المباشرة. فيزداد انحصار المصريين على أنفسهم بالمبالغة فى مدح الذات وتقديس الزعامات وتجاهل الأخطاء والاهتمام بسفاسف الأمور. ولم تكن برامج التليفزيون فى رمضان غير انعكاس لذلك!!