فشل واشنطن.. ونجاح أمريكا
محمد المنشاوي
آخر تحديث:
الخميس 22 سبتمبر 2016 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
دفعت الحملة الانتخابية الرئاسية الجارية بين الجمهورى دونالد ترامب والديمقراطية هيلارى كلينتون البعض للتساؤل والاستغراب كيف لدولة عظمى، تقود العالم فى أغلب المجالات العلمية والتكنولوجية والتعليمية والرياضية والفنية، أن تصل لهذا الدرجة من السقوط. وأعنى بالسقوط هنا وصول مرشح جمهورى يتميز بمستويات غير مسبوقة من الانحطاط والسفالة السياسية والكذب، ولمرشحة ديمقراطية تمثل كل قيم النفاق والفساد السياسى مجتمعة. وتعكس هذه النتيجة الفشل الواشنطونى فى أوضح صوره. فواشنطن، العاصمة الفيدرالية ومقر صنع القرار السياسى تعج بمظاهر فشل تراكمت بصورة غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة، وذلك على العكس والنقيض من نجاحات كبيرة تشهدها بقية مراكز القوة الأمريكية.
***
لا يتمتع المرشحان للرئاسة بثقة أغلبية الشعب إذ لا يثق فيهما ما يقترب من 70% من الأمريكيين، وهى النسبة الأكبر فى التاريخ المعاصر. ورغم غياب الثقة فى المرشحين، يضطر الشعب الأمريكى للاختيار بينهما. ولا يقتصر الفشل فقط على هوية المرشحين الرئاسيين، بل يمتد للكونجرس. وعلى الرغم من افتخار الأمريكيين بديمقراطية بلادهم، إلا أنها تتمتع أيضا بنظام سياسى قد يكون الأكثر فسادا فى العالم. والسبب وراء عدم إدراك معظم الأمريكيين لهذه الحقيقة هو أن الفساد هنا يكتسب الصفة القانونية. فرغم أن أغلب الأمريكيين يؤمنون بأن حكومتهم «حكومة الشعب ومن الشعب ولأجل الشعب»، فإن الواقع أكثر تعقيدا من ذلك، فهى تبدو «حكومة الشعب من جماعات المصالح ولأجل مصالح هذه الجماعات»، ولهذا السبب أنفقت جماعات المصالح الأمريكية العام الماضى ما يقرب من 4 مليارات دولار على جيش من اللوبى بلغ عددهم 13 ألف شخص يعملون فقط من أجل التأثير فى صنع السياسات الأمريكية المختلفة خدمة لمصالح ضيقة.
يضاف إلى ذلك أن نسبة ثقة الشعب الأمريكى فى مؤسسة الكونجرس (التى تصنع القوانين) تبلغ 12% فقط، ولا يثق فى الكونجرس ما يزيد عن 85% من الأمريكيين. ولهذا السبب لا يذهب نصف الأمريكيين لصناديق الاقتراع ويفضلون قضاء يوم عادى بسبب عدم إيمانهم بوجود فروق حقيقية تذكر بين الحزبين، وعدم إيمانهم بأهمية صوتهم.
***
ويمكن النظر للفشل الواشنطونى من زاوية فساد نخبتها السياسية والفكرية بالطرق القانونية. وسمحت هذه النخبة أن تتخذ سياسيات وقرارات مصيرية ترتب عليها معاناة الملايين خارج أمريكا والكثيرين داخلها. ويتمثل الفشل الأكبر لواشنطن فى حالة التطبيع الجارية حاليا مع «الخطاب السياسى لدونالد ترامب»، وخروج الكثير من التبريرات لفاشيته ووقاحته من مشرعين منتخبين ومن وسائل إعلام ومراكز بحثية مختلفة.
***
وبعيدا عن الفشل الواشنطونى، نجد هناك نجاحا أمريكيا واضحا من خلال تواجد مراكز منتشرة فى أنحاء الولايات المتحدة تمثل مراكز صناعة القوة الأمريكية الحقيقية. ويسمح النظام الفيدرالى بتواجد مراكز مؤثرة خارج العاصمة تستطيع معها تجاهل واشنطن وديناميكياتها المريضة ونخبتها الفاسدة. وتقود هذه المراكز قافلة التقدم الأمريكى. وتنتشر هذه المراكز فى مختلف أنحاء الولايات المتحدة شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا. فمدينة بوسطن فى الشمال الشرقى تعد المركز الأهم لحركة الأكاديمية العالمية بتواجد جامعات كبرى بها أو حولها مثل هارفارد وييل وإم آى تى، وعشرات غيرهم. وجنوبا من بوسطن تقع مدينة نيويورك، درة التاج الأمريكى بما تحتضنه من مركز التحكم المالى العالمى الأهم فى وول ستريت، ناهيك عن كونها عاصمة النشر والطباعة العالمية، وعاصمة الموضة والابتكارات الاستهلاكية. وبعيدا عن نيويورك وفى وسط الجنوب الأمريكى تقع مدينة أتلانتا، والتى أراها مركزا مهما للقوة الأمريكية بتواجد محطة سى إن إن الاخبارية وشركة كوكاكولا للمشروبات الغازية بها. وبجوار شواطئ فلوريدا تقع منتجعات وملاهى ومزارات ديزنى لاند وهى التى تعد تعبيرا واضحا للقوة الناعمة الأمريكية من خلال سيطرتها على قلوب وعقول أطفال العالم.
***
وإذا تركنا الشرق الأمريكى واتجهنا لمركز هيوستن بولاية تكساس، فسنجد عاصمة قطاع الطاقة العالمية، والمركز الأهم لتواجد شركات البترول والغاز الأمريكية وغير الأمريكية. وتعد هيوستن كذلك المركز الأهم لعلاج وأبحاث أمراض السرطان. وفى أقصى شمال الوسط يقع مركزا ديترويت، عاصمة صناعة السيارات فى العالم بتواجد شركات فورد وكرايسلر وجنرال موتورز بها، ومركز شيكاغو الذى خرجت منه إمبراطورية ماكدونالد وبوينج وغيرهما. وفى أقصى الشمال الغربى يقع مركز سياتل الذى يضم عدة إمبراطوريات تكنولوجية مثل مايكروسوفت وسيسكو سيستمز وأمازون. وفى الجنوب الغربى يقع مركز سان فرانسيسكو الذى يحتضن الشركات الكبرى التى تُخرج لنا الاختراعات الجديدة فى مجال التكنولوجيا المتطورة ومنها على سبيل المثال شركات جوجل وآبل وآى باى وإنتل وياهو وفيسبوك وتويتر. وتحدد هذه الشركات السلوك البشرى فيما يتعلق بكيفية قضاء الشخص وقته مع أدواته التكنولوجية وطبيعة هذه الأدوات المتغيرة والمتجددة. وفى أقصى الجنوب الغربى تقع لوس أنجلوس، عاصمة الإبداع المرئى الأهم المتحكم فى صناعة السينما والتليفزيون حول العالم بتواجد الفنانين والكتاب وصناع الأفلام والممثلون والراقصون الأهم فى العالم.
***
وقود النجاح الأمريكى خارج واشنطن يعتمد على خلق البيئة المناسبة للتفكير والابتكار، ويرتبط بذلك محاولات لا تتوقف لجذب أفضل العقول فى العالم من أجل الدراسة أو البحث سواء فى برامج الدراسات العليا بجامعاتها أو بشركاتها. ويمثل الطلبة الصينيون والهنود والروس اليوم العدد الأكبر من طلاب درجة الدكتوراه فى معظم برامج الهندسة والتكنولوجيا بالجامعات الأمريكية على سبيل المثال.
***
لا ينفى ما سبق من عرض لمظاهر القوة الأمريكية وجود حالة استقطاب سياسى وانقسام مجتمعى حاد خارج واشنطن حول كل القضايا المهمة الداخلية مثل الرعاية الصحية وحقوق المثليين ودور الدين وحق حمل السلاح، وغيرها كثيرا. إلا أن هذه الانقسامات تبقى بعيدة عن عرقلة المسيرة الأمريكية بسبب وضوح قواعد اللعبة السياسية وصرامتها من خلال تقديس الدستور الذى وضع معادلات مناسبة للحالة الأمريكية يدرك الجميع أن الانقلاب عليها كفيل بهدم المعبد الأمريكى على رءوس الجميع.