الجنتل فقط لا غير
سيد محمود
آخر تحديث:
الأربعاء 23 سبتمبر 2020 - 4:48 ص
بتوقيت القاهرة
لا تخلو صفحات مواقع التواصل الاجتماعى التى أتابعها من حسرة على نفاد رصيد مصر من الأسماء الثقافية ذات الوزن الثقيل وهذه الحسرة حقيقية فى مجالات كثيرة إلا فى مجال الترجمة الذى يمكن أن تتابع فيه يوميا ظهور أسماء شابة نجحت خلال السنوات العشر الأخيرة فى تأكيد وجودها، ومن بين هؤلاء الأعزاء: أنور إبراهيم، سيد إمام، حسين محمود، سمير جريس، هبة شريف، أحمد فاروق، ربيع وهبة، حسام نايل، يوسف نبيل، طه زيادة، محمد الفولى، أحمد عبداللطيف، مارك جمال، عبدالرحيم يوسف، أمانى حبشى، نجلاء والى ومحمد عبدالنبى وبعض هؤلاء نال جوائز عربية ودولية ونجح فى تأكيد وجوده خارج السوق المصرية وأغلبهم حاز ثقة القراء والناشرين وصارت ترجماتهم عن اللغات المختلفة بمثابة ماركة مسجلة نجحت فى الخروج بالقارئ العربى من متاهة الأسماء المعتادة وغامر أكثرهم بتعريف القارئ العربى على أجيال جديدة وموضوعات لم تكن مطروقة.
وبالنسبة لمن هم على مشارف الخمسين من المعنيين بمثل هذه الموضوعات فإننا ندين بالفضل الأكبر لاسمين كبيرين قدما لنا الكثير فى مجال الترجمة، ومدا يد العون فى سنوات التكوين التى رسمت أمامنا ملامح الطريق الذى اخترنا أن نمشيه، الأول هو الراحل بشير السباعى الذى انتقل إلى ربه متوجا بالكثير من الجوائز ولائحة من الإنتاج المتفرد، أما الثانى فهو أحمد حسان الذى لا يزال يعطى بسخاء وينحاز لثقافة الهامش التى منحته الشعور الدائم بالرضا، ما يفرض على الجماعة الثقافية البحث عن آلية لتكريمه على الدور الذى قام بتأديته لوجه الله لا ينتظر جزاء ولا شكورا.
وعبر سنوات عمله فى الترجمة والتى جاوزت الثلاثين عاما قدم حسان أكثر من 50 عملا فى مجالات إبداعية وفكرية مختلفة ولأسماء كبيرة تنتمى كلها لتيارات طليعية ناهضت الأفكار الفاشية والرجعية وانحازت دائما للقيم الجمالية الرفيعة وتأكيد التزامها بتحسين شروط العيش الإنسانى.
وعلى القارئ أن يعرف كيف أن كل اسم سعى لتقديمه قبل 30 عاما كان مجهولا وقتها للقراء وللناشرين إلا أنه أصر على منهجه وطريقة عمله وكسب الرهان، فبفضله فقط عرفنا بيير بورديو وفالتر بينامين وجيل دلوز وجى ديبور، وديفيد هارفى وإدواردو جاليانو، وسلافوى جيجيك وروبرتو بولانيو كما عرفنا كارلوس فونتيس والشاعر التشيلى نيكانور بارا، حتى بريخت ذاته اكتشفنا فيه وجه الشاعر بعد أن طغى وجهه المسرحى على وجوهه الأخرى.
وعبر سنوات فشل أصدقاء حسان الذين ينادونه بـ«الجنتل» فى إقناعه بمسألة التكريم أو القبول بإجراء حوارات صحفية حول تجربته العريضة رغم أنه قضى شطرا من عمله يعمل مترجما صحفيا.
يزهد حسان فى مختلف أشكال الشهرة والاستعراض الثقافى ويفضل دائما أن يعمل فى صمت، مكتفيا بممارسة هوايته كمصور فوتوغرافى وكمتجول عظيم يسير بصحبة من يختارهم من الأصدقاء والتلاميذ يمشون إلى جواره يقطعون شوارع القاهرة وهم يتناقشون حول كاتب أو كتاب أعجبه وظل يعمل على ترجمته استجابة لمزاج شخصى وانطلاقا من رغبة فى إفادة رفاقه وتعريفهم على الأمور التى يجهلونها وهذه أولى مهام المترجم كوسيط .
وصباح أمس الأول كدت أهاتف حسان لأشكره شكرا يليق بدوره فى حياتى عقب انتهائى من قراءة كتاب حول فلسفة ما بعد الحداثة فقد انبهرت لأن الكثير من الأفكار التى قرأتها عرفته قبل ربع قرن بالتمام والكمال بفضل كتابين ترجمهما حسان صدر متزامنين تقريبا، الأول عن هيئة قصور الثقافة تحت عنوان مدخل إلى ما بعد الحداثة والثانى عن دار شرقيات بعنوان الوضع ما بعد الحداثى وأهم ما لاحظته عند مقارنة تواريخ نشر المقالات الأصلية فى الموضوع مع تواريخ نشر الترجمات أن المسافة الزمنية بين التأليف والترجمة ليست كبيرة، ما يعنى أن حسان كان يعمل ليناهض الفجوة الزمنية، لأنه راغب فى المعاصرة وقد تعلم هذا الدرس من أستاذه الدكتور فؤاد زكريا الذى حمسه لخوض تجربة الترجمة لأول مرة.
وعلى الرغم من أن حسان مارس الترجمة استجابة لدوافع أيديولوجيا لفترة من الزمن إلا أنه تجاوز هذا الالتزام فى معناه الضيق لصالح الارتباط بالمستقبل وكان كل كتاب يترجمه هو دعوة يقدمها للقارئ ليشاركه لحظة العبور إلى فكرة أخرى سواء كان مصدرها شاعر أو روائى أو فيلسوف، فالمعرفة لا تكتمل أبدا إلا بفضل هؤلاء الذين رافقهم وكان جميعا من حملة رايات التمرد
وكل ما أتمناه أن يقوم أتيليه القاهرة كجمعية أهلية بترشيحه لجوائز الدولة أو أن تبادر المديرة الجديدة للمركز القومى للترجمة الدكتورة كرمة سامى بتكريمه لأنه يعمل لأجل المتعة والذهاب إلى المستقبل.