على نصار.. ومتعة التحديق فى المستقبل

نبيل مرقس
نبيل مرقس

آخر تحديث: الأحد 22 سبتمبر 2024 - 6:20 م بتوقيت القاهرة

 «يجدر بنا ألا ننسى أن الأزهار والأثمار تنبت فى مخيلة البساتنة والفلاحين قبل أن تنمو وتزدهر الحقول والبساتين.... والعمارات تُبْنَى وتقوم فى مخيلة المعماريين والبواخر تتشكل وتتركب فى أذهان المهندسين، والأنصاب والتماثيل تتكون وتقام فى مخيلة الفنانين قبل أن تشاد وتصنع وتنحت فتخرج إلى عالم الوجود.... وما من إصلاحٍ تم وتقدم وحصل ولا من نهضةٍ تحققت ورسالة انتشرت، إلا وكانت قد بدأت على شكل مشروع تخيلته الأذهان وأملٍ جاش فى الصدور وتعلقت به النفوس.... وأنا لا أتردد فى القول بأن الخيال يكون فى بعض الأحوال أشد حيوية من الواقع، لأن «الواقع الحالى» كثيرًا ما يمثل «الماضى البالى» فى حين أن الخيال قد يكون مبعثا للمستقبل الحقيقى». ساطع الحصرى

• • •

فى صيف 1983، دعانى أستاذى فى معهد التخطيط القومى د. على نصار إلى لقاءٍ بالمعهد ضمن سلسلة اللقاءات التى عقدها مشروع «استشراف مستقبل الوطن العربى» مع عددٍ من المفكرين العرب حول منهجية ووثيقة الإطار العام للمشروع. أدار اللقاء عضوا الفريق المركزى للمشروع سعد الدين ابراهيم وعلى نصار، وكان من بين الحضور الأساتذة الأجلاء على الدين هلال، جودة عبد الخالق، عبد المنعم سعيد، مصطفى الفقى، مصطفى كامل السيد. كنت عائدًا منذ فترة قصيرة من دراستى بالخارج فى جامعتى كامبردج ومانشستر ببريطانيا فى مجالَى التنمية وبناء وتنظيم العلم والتكنولوجيا. كنت وقتها متحمسًا ممتلئًا بالأحلام الواسعة من أجل وطنٍ حر يمتلك إرادته ويصنع مصيره. وكانت مداخلتى الاستهلالية تنصب على انتقاد التحيز فى تشكيل فريق الخبراء الموجودين لأنهم ينتمون فى غالبيتهم بدرجةٍ أو أخرى إلى تيار اليسار العلمانى بينما يغيب أى تمثيلٍ لتيار الإسلام السياسى الصاعد بقوة على الساحة السياسية المصرية وقتها.
كان رد على نصار على كلمتى موجهًا إلى سعد الدين إبراهيم الذى قام بتدريسى فى الجامعة الأمريكية: «مش قلتلك مانجيبوش أحسن». وبرغم التعليق الساخر فقد كان حريصًا على استمرار مشاركتى الفعالة فى الحوار الساخن والجدل النظرى الراقى خاصةً حول محور الدولة/المجتمع. كان على نصار قد شارك مبكرًا مع أستاذه إبراهيم حلمى عبد الرحمن ورفيق دربه نادر فرجانى عام 1980 فى دراسةٍ طليعية صدرت بالإنجليزية عن مكتب اليونسكو الإقليمى للتربية فى بيروت، بعنوان «مفاهيم وممارسات دراسات المستقبل باستخدام النماذج فى الإقليم العربى». كانت بمثابة نقطة انطلاقه نحو تصميم وتنفيذ منهجية استشراف المستقبل للوطن العربى فى أول تطبيق جاد لهذه المنهجية تحت قيادة د. خير الدين حسيب مدير مركز دراسات الوحدة العربية.
وفى كتاب «مستقبل الأمة العربية ــ التحديات والخيارات» (أكتوبر 1988) وهو يتضمن التقرير النهائى لمشروع استشراف مستقبل الوطن العربى الذى حرر على نصار مسودته الأولى بتكليف من أعضاء الفريق ابراهيم سعد الدين وعلى الدين هلال وسعد الدين إبراهيم، يطلق محرر التقرير على المنهج المستخدم فى التحليل المستقبلى اسم «الاستشراف». وهو يعتمد على صياغة مجموعة من التنبؤات المشروطة التى تفترض الواقع تارةً والمأمول فيه تارةً أخرى، دون أن تنتهى إلى قرارٍ بتحقيق أى من هذه الصور. والقصد هو إطلاع القوى الفاعلة فى المجتمع بعد استعراض نتائج الاستشراف، على متطلبات تحقيق إحدى الصور المأمول فيها – وفقًا لتفضيلها – لكى تعمل على تغليبها على غيرها من المشاهد أو الصور البديلة فى سياق العقود الثلاثة القادمة.
تبنت الدراسة ثلاثة مشاهد مستقبلية بديلة فى إطار جدلية «الوحدة والتفتت». الأول هو «مشهد التجزئة» الذى يفترض استمرار الأوضاع الراهنة فى المنطقة العربية بما تعنيه من انقياد للعوامل الخارجية التى أشاعت الفرقة والتجزئة وأفرزت نخبا حاكمة تتشبث بالقطرية (التركيز على المصالح الضيقة للدولة الوطنية). بما يترتب عليه مزيد من التبعية للخارج والتعثر فى إنجاز التنمية القطرية، وبما يسمح لإسرائيل بمزيد من التوسع الإقليمى وفرض هيمنتها على المنطقة.
الثانى هو «مشهد التنسيق والتعاون» وذلك تحت ضغط وصول التنمية القطرية إلى طريق مسدود بسبب ضيق السوق المحلية ونقص الموارد أو بسبب تردى مستوى الأداء الاقتصادى وسوء إدارة الموارد المتاحة. ويأخذ التنسيق والتعاون أحد شكلين: «التجمعات الإقليمية» مثل تجمع دول الخليج والجزيرة العربية، وتجمع دول المشرق العربى، وتجمع دول وادى النيل، وتجمع دول المغرب العربى الكبير. والشكل الثانى «التنسيق العربى العام» الذى قد يأخذ نمط تكثيف العمل العربى المشترك فى بعض المجالات المرتبطة بالأمن القومى العربى أو محاولة تحقيق التكامل الاقتصادى العربى وتحسين شروط التعامل مع العالم الخارجى.
المشهد الثالث هو «مشهد الوحدة العربية» وجوهره توحيد مركز صنع القرار السياسى فى العالم العربى فى إطار دولة اتحادية. ويحتاج تحقيق هذا المشهد إلى إنجاز خطوات متقدمة على طريق الاستقلال والتنمية والديمقراطية مع احترام مظاهر التعدد الثقافى والاجتماعى القائمة فى المجتمعات العربية. وفى سياق تصاعد التوتر فى المنطقة العربية مؤخرًا بعد أحداث 7 أكتوبر من العام الماضى بين صور «الواقع المستباح» وتصورات «الوضع المأمول» كما يتبدى فى أذهان المؤمنين بالقومية العربية والتضامن العربى، يبرز مقالان هامان صدرا حديثًا (9 سبتمبر).
• • •
يعبر المقالان عن هذا الجدل القائم فى وعى المثقفين العرب بين الواقع المكبل بالتجزئة والمستقبل الذى يحمل إمكانات التنسيق والتضامن: «الواقع العربى الحالى بكل سلبياته ليس قدرًا مكتوبًا لا يمكن الفكاك منه، وهناك بدائل مختلفة للمستقبل العربى وهناك خيارات. وأننا نستطيع أن نحدد مستقبلنا تبعا لإرادتنا وقدرتنا ورغبتنا فى دفع الثمن المطلوب للمستقبل المرغوب» (ص 18 من كتاب «مستقبل الأمة العربية ــ التحديات والخيارات»).
ويجسد لنا مقال عالم السياسة المصرى مصطفى كامل السيد فى جريدة الشروق المصرية بعنوان «عودة فراغ القوة إلى الشرق العربى»، تداعيات مشهد التجزئة بعد أكثر من خمسين عامًا من غياب المشروع الناصرى. وهو يذكرنا أن فراغ القوة فى الشرق العربى قائم وهو حقيقة واقعة وأن القوة الوحيدة التى تسعى لكتابة تاريخ جديد للمنطقة هى إسرائيل، وذلك فى غياب قوة جماعية عربية تضع حدًا لاستباحة إسرائيل لكل ساحة فى المنطقة من غزة والضفة الغربية مرورا بسوريا ولبنان ووصولا إلى قلب العاصمة الإيرانية. وهو يدعو إلى مقاومة المشروع الصهيونى بالتمسك بالعِلْم والديمقراطية وإقامة تحالفٍ بين دول الحضارات الكبرى فى المنطقة يشمل مصر وتركيا وإيران، وذلك لإنشاء نظام إقليمى جديد يقوم على احترام السيادة واستقلال كل أطرافه بمساندة كل قوى الجنوب العالمى المعترضة على عدوانية إسرائيل.
أمّا مقال الكاتب اللبنانى، غسان شربل، فى جريدة الشرق الأوسط اللندنية بعنوان «استقرار الأردن حاجةٌ فلسطينية وعربية»، فيعبر عن المخاطر التى يتعرض لها الكيان الأردنى الشقيق فى اللحظة الراهنة فى غياب حاضنة عربية. وهو يوضح أن الأردن منذ بداية الحرب التدميرية على غزة قد حذر من نقل إسرائيل حربها على غزة إلى مخيمات الضفة الغربية ومدنها. ولا يقتصر القلق على التخوف من عمليات تهجيرٍ من الضفة، بل يشمل الخوف أيضًا من فرض واقعٍ على الأرض يجعل حل الدولتين متعذرًا بل مستحيلاً. ويؤكد شربل أن الأردن قاوم طويلاً الدعوات الإسرائيلية إلى حل المشكلة الفلسطينية على حسابه، وهو يعرف أنه مستهدف بسبب امتلاكه أطول حدود عربية مع إسرائيل ولأنه اختار الاعتدال لغة فى علاقاته الإقليمية والدولية مع تمسكه بحرية قراره فى مواجهة ضغوط الجغرافيا والاندفاعات الإقليمية من حوله. ويرى شربل أن الأردن المستقر هو حاجة فلسطينية وعربية حيث أنه عنصر مساعد فى البحث عن طرق إنهاء الظلم اللاحق بالشعب الفلسطينى، بينما غياب هذا الاستقرار سوف يحدث خللا جسيما وخطيرا فى موازين القوى الإقليمية. وهو ما يستدعى أطروحة مشروع استشراف مستقبل الوطن العربى فى إقامة تجمع لدول المشرق العربى فى سياق «مشهد التنسيق والتعاون» المأمول يشمل العراق وسوريا والأردن ولبنان، بما يسهم فى منح الأردن الاستقرار السياسى والاقتصادى الذى يتعذر أن يحققه منفردا (خاصة بعد فوز جبهة العمل الإسلامى بواحدٍ وثلاثين مقعدًا فى مجلس النواب الأردنى)..
وقبل أن يلمح على نصار تساقط بعض ثمار جهده المخلص مع زملائه فى تأسيس تقاليد وفنون «الاستشراف» كعلم مجتمعى ينعم بالشمول والبصيرة، غادرنا فجأة وهو لم يكف عن التحديق بحثًا عن «وضعٍ مرغوب» فى بساتين المستقبل ربما يجتاز بأمتنا العربية سنوات جدبٍ طوال.

باحث بمعهد التخطيط القومى (سابقا).

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved