خبيئة الحكيم محمد أبوالغار
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 22 أكتوبر 2019 - 11:50 م
بتوقيت القاهرة
ينتمى الكتاب الذى صدر أخيرا عن دار الكرمة تحت عنوان (رحلتنا مع الفن.. مقتنيات عائلة أبو الغار) لنوعية من الكتب لا تشبع منها أبدا، وتخاف فى نفس الوقت أن تنتهى منها أو أن تخدش جمالها عند المطالعة.
ومثل كل ما هو جميل يحتاج الكتاب لرعاية خاصة ولتأمل ممتد واستبصار متواصل ولعلاقة خالية من أشكال الانتهاك بل تقوم على صيغة من صيغ الوصل الجميل.
والكتاب أقرب ما يكون دعوة لدخول متحف أو الاستماع لبوتشيلى، أو العشاء فى بيت محمود خليل وربما كانت خلوة من خلوات السماع الصوفى.
ولا يحتاج الدكتور محمد أبو الغاز لأى تعريف فهو الطبيب الكبير والمثقف المهموم بالشأن العام الذى لم تنقطع مساهماته السياسية أو الثقافية سواء بالتأليف أو الكتابة أو دعم الوقوف للأفكار المجتمعية الخلاقة مثل جائزة ساويرس أو الجائزة التى منحت لصنع الله إبراهيم قبل عامين تقديرا لكونه المثال الأوضح لصورة المثقف المستقل.
وبالإضافة لتلك الأدوار يتمثل أبو الغار صفة الحكيم التى هى أهم من الطبيب ويعقد صالونا للكتاب يناقش فيه مع دائرة محدودة مع المهتمين الإصدارات الجديدة مع مؤلفيها وأغلبهم من خارج الدوائر التقليدية وهذه ميزة أخرى فى أبو الغار المولع باكتشاف الناس باعتباره (جواهرجى بشر) فأثبت لى الكتاب أنه من هواة اقتناء الأعمال الفنية رفيعة القيمة، جواهرجى (فن) من طراز فريد، كما تشير إلى ذلك مقدمته اللافتة للكتاب وهى أقرب لسيرة ذاتية لا يغيب عنها قياس تحولات سوق الفن ومراكز عرضه ومناطق تسويقه بالإضافة إلى أساليب تزويره التى تحولت لظاهرة فى السنوات الأخيرة.
ويخطئ من يظن أن فن الاقتناء يحتاج فقط إلى رأس المال، لأن الأهم هو التذوق الجمالى والخبرة الشخصية القادرة على تمييز عمل الفنان الراسخ فضلا عن الرهان على الأسماء الواعدة وخوض تحدى الأيام معها كما فعل مع أعمال ناثان درس وعمر عبدالظاهر حين وضع أعمالهما فى الكتاب إلى جوار أعمال بيكاسو ومحمود مختار.
ويذكر أبو الغاز فى حرصه على اقتناء تلك اللوحات بالدور الذى لعبته أسرة (ميديتشى) فى إيطاليا، فبفضلها حدث التحول الرئيسى فى فنون النهضة الأوروبية ووجد الفنانون رعاة يقدمون الأموال التى ترفع من سقف المغامرة والتجريب لدى هؤلاء الفنانين بالطريقة التى غيرت الفن الأوروبى ودفعت عائلات أخرى لدخول حلبة المنافسة.
وعبر مهمة التوثيق التى ينجزها هذا الكتاب الفذ يؤدى أبو الغار خدمة جليلة للحركة الثقافية والتشكيلية بوجه خاص وربما يحمس أفرادا مماثلين أو مؤسسات أخرى لديها مقتنيات مهمة على خوض نفس التجربة وتوثيق ما لديها من أعمال ليتمكن مؤرخو الفن من إجراء حصر دقيق لأعمال الفنانين الموزعة فى أماكن كثيرة، فإلى الآن ليس لديها حصر مطمئن لأعمال محمود سعيد وعبدالهادى الجزار وحامد ندا.
ومن حسن الحظ أن مؤسسة الأهرام بادرت بإنجاز مهمة شبيهة قبل سنوات لكنها بحاجة لطريقة أخرى لتسويق كتالوج أعمالها ليلفت نظر الدارسين والمهتمين.
وقبل أيام كنت فى زيارة لإحدى المؤسسات الرسمية الكبرى وأنفقت الكثير من الوقت فى تأمل جدران الممرات وكانت كلها مطرزة بلوحات كبار فنانينا.
وعلى الرغم أنها فى حالة جيدة إلا أنها ستحتاج دوما إلى ترميم علمى والى توثيق أحسب أنها لن تبلغه أبدا لاعتبارات بيروقراطية محضة، فمن النادر لدينا أن تفكر مؤسسات حكومية فى النهوض بأدوار من هذا النوع.
ويكفى لإثارة شهوة المهتمين أن أشير إلى أن كتاب أبو الغار يوثق لمقتنيات بلغ عددها ٣١٨ عملا فنيا وكلها ذات قيمة كبيرة وكلها لفنانين مصريين متنوعى الاتجاهات الفنية والأجيال، باستثناء مجموعة لفنانين من السويد (بلد زوجته مصرية الهوى) ولوحة وحيدة لفنان يمنى هو فؤاد الفتيح.
والميزة الأهم أن أبو الغار فى مهمته الجليلة أعطى العيش لخبازه فجاء بناقد تشكيلى متمرس وصاحب أسلوب بسيط هو سمير غريب ليقدم الكتاب ولمصور بنى خبرة كبيرة فى مجال توثيق الأعمال التشكيلية هو الصديق عماد عبدالهادى ومخرج صحفى كبير هو حسين الشحات وبفضل أفراد هذا الفريق اكتمل طموح محمد أبو الغار فى الحفاظ على مجموعته التى أحلم بعرضها ذات يوم فى قاعة (أفق) أو فى بهو متحف الفن الحديث لنعرف جميعا ماذا يملك أبو الغار فى خبيئته.