الخنوع والتسلط الخطابي
عماد عبداللطيف
آخر تحديث:
الجمعة 22 أكتوبر 2021 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
هل يمكن أن يخلو التواصل بيننا من إكراهات السلطة؟ هل يصحو سكان العالم العربى يومًا ما ليجدوا أن كل إنسان يتكلم مع الآخرين بطريقة إنسانية واحدة بغض النظر عن مكانتهم، وثروتهم، ومنصبهم، وأصلهم، وحسبهم، ونسبهم، ولونهم، ونوعهم ودينهم؟
سيكون يومًا مشهودًا ذاك الذى ينحاز فيه البشر جميعًا إلى التواصل مع الآخرين انطلاقًا من مبدأ المساواة، فيخاطبون أفقر فقرائهم كما يخاطبون أثرى أثريائهم، ويتعاملون باحترام متساوٍ مع أكبر رؤسائهم وأصغر مرءوسيهم. لا تقيدهم سلطة الشخص أو نوعه أو لونه أو جنسيته أو ثروته فى اختيار طريقة التحية، ونبرة الصوت، وطبيعة الوقفة أو الجلسة، والمفردات والتعابير، بل يتعاملون مع الجميع انطلاقًا من مبدأ واحد هو كونهم بشرًا متساوين، لهم حق التواصل الإنسانى المهذب دون تمييز. فهل يحل هذا اليوم قريبًا، كما حل فى مجتمعات أخرى فى مشارق الأرض ومغاربها؟ أم أن انتظار مجيئه للعالم العربى وهم وسراب؟
إن نظرة سريعة إلى عالمنا العربى تقول لنا إن الطريق طويل، لكن اجتيازه ممكن. فالمجتمعات العربية تُصنَّف ضمن المجتمعات عالية التفاوت فى السلطة، وفقًا لمقياس مسافة السلطة، الذى ابتكره عالم النفس الاجتماعى جيرالد هوفستد؛ ليقيس تأثير السلطة على التواصل بين الأشخاص فى المجتمعات المختلفة. ويعنى ذلك أن الأفراد فى العالم العربى يُعطون للسلطة أهمية كبيرة فى تحديد طريقة تعاملهم مع الآخرين. ومن ثمَّ، يميل البشر فى العالم العربى إلى تغيير طريقتهم فى التعامل مع الآخرين بحسب وزن سلطتهم فى مقابل سلطة الآخرين. لذا يُنتجون علامات خضوع واضحة حين يتواصلون مع من هم أعلى منهم سلطة، ويُنتجون علامات تسلط واضحة مع الأقل منهم سلطة. وتظهر هذه العلامات فى كل شيء، بدءًا من اختيار موضوعات الكلام، ونظرات العين، والإشارات الحركية المصاحبة للكلام، ودرجة الصوت، وطريقة الجلوس أو الوقوف، وطبيعة الحجج المستعملة للإقناع... إلخ.
أمراض الكلام: الخنوع والتسلط
أعتقد أن سلبيات أثر التفاوت فى السلطة على التواصل بين البشر فى المجتمعات العربية تتجلى فى ظاهرتين متضادتين؛ الأولى سأسميها «الخنوع الخطابى»، والثانية سأسميها «التسلط الخطابى». فى الأولى يقوم الشخص الذى يدرك نفسه على أنه أقل سلطة بإنتاج علامات تذلل وخضوع مثل طأطأة الرأس، وخفض الصوت، ونبرات المسكنة، وانكماش الجسد، وتعظيم الآخر (الباشا، البيه، سعادتك، وسيادتك، ومعاليك... إلخ)، وإنكار الذات (خدامك، محسوبك، طوع أمرك، تلميذك...)، والمبالغة الفجة فى استعمال أساليب التأدب (أحلام سعادتك أوامر...)، والميل الدائم إلى تأييد الأقوى، وعدم مخالفته، أو مقاطعته، أو التعبير عما لا يرغب فى سماعه، وذم مخالفيه أو معارضيه، والتشنيع عليهم أمامه،... إلخ.
أما التسلط الخطابى فيتجلى فى علامات مضادة مثل استعمال لغة الأمر والنهى (افعل ولا تفعل)، وشموخ الرأس المفتعل، وعلو الصوت، ونبرات القوة والجزم واليقين، والمبالغة فى تقدير الذات (نحن ولا فخر...)، والتقليل من قدر الآخرين (من أنتم؟!...)، وإحراجهم بكثرة مقاطعتهم، والتسفيه من آرائهم، وتحديد المساحة التى يأخذونها فى الكلام، وتقييد حقهم فيه، وفرض الصمت عليهم، والسيطرة على طريقة وقفتهم أو جلوسهم، ومستوى الابتعاد عنهم،... إلخ.
من الجلى إذن أن الخنوع الخطابى والتسلط الخطابى مرضيْن من أمراض الكلام فى مجتمعاتنا العربية، مثلهما مثل خطابات الكراهية والإقصاء والتمييز والقهر وفقدان المصداقية والبذاءة وغيرها من الأمراض التى تستحق الدراسة والمعالجة. وفى الحقيقة فإن الخنوع الخطابى والتسلط الخطابى مرضان متلازمان. فحيثما يوجد تسلط خطابى يستجيب له البعض بالخنوع؛ وحيثما وجِد خنوع خطابى ازداد احتمال ظهور التسلط الخطابى. بما يعنى أن إنتاج أحدهما يعزز من إمكانية إنتاج الآخر، فهل يمكن الشفاء منهما معًا؟
نحو تواصل بلا تسلط أو خنوع
يمكن القول إن جزءًا من رقى الأفراد والمجتمعات البشرية هو رحلة تعافى من مرضى الخنوع والتسلط الخطابيين. فقد انتقلت المجتمعات بدرجات متفاوتة من قَصْر حق الكلام على ذوى السلطة (الاجتماعية أو الدينية أو السياسية أو المالية) إلى تشارك هذا الحق مع الآخرين، وصولا فى بعض المجتمعات (مثل الدول الإسكندنافية التى تحظى بأقل أثر لتفاوت السلطة على التواصل بين مواطنيها ومواطناتها فى العالم) إلى تواصل إنسانى يكاد يخلو إلى حد كبير من إكراهات السلطة. وبعبارة أخرى، فإن رقى الأفراد والمجتمعات البشرية إنسانيًا واجتماعيًا سوف يؤدى بالضرورة إلى اتساع دائرة التوصل الحر المتكافئ، الذى لا تشوهه تفاوتات السلطة. فازدياد مستوى التعليم، وسيادة القانون، وتعمق ممارسات العدالة الاجتماعية، وتوفر الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، وتعزيز حقوق المواطنة، وقبول التعايش والاختلاف، تعزز من إدراك البشر الأقل سلطة لحقهم فى تعامل إنسانى بلا خنوع، ويكبح نزوع الأفرد الأعلى سلطة نحو التسلط.
حين يعيش البشر فى مجتمعات تضمن لهم حقوق مواطنة كاملة، وترسخ بينهم العدالة والحرية والمساواة، فإنهم سيعلون من معيار الإنسانية على معيار السلطة. ومن ثمَّ، يتخلون عن ممارسات التسلط ويأبون الخنوع الخطابى، فيحافظون على كرامة أنفسهم وكرامة الآخرين، وينحازون إلى تواصل متكافئ، يقوم على أساس المساواة الإنسانية لا تفاوت السلطة. وحينها سيطور الأفراد استجابات بليغة تتصدى للاستبداد الخطابى وتقوِّم الخنوع الخطابى، وتعبِّد الطريق أمام إنتاج خطابات غير مشوَّهة.
لا يعنى التواصل المتكافئ بين البشر غياب الضوابط الحاكمة. إنه يعنى فقط إحلال ضوابط أكثر نبلا محل الضوابط المتحيزة السائدة. فبدلا من أن يكون الضابط الحاكم للتواصل بين الأفراد هو ما يحوزه الشخص من سلطة ومكانة وثروة، يصبح الضابط هو ما يتمتع به من حقوق بفضل كونه إنسانًا ومواطنًا. فيكون الحق فى الكلام للجميع، لا القلة، وتكون علامات الاحترام أثناء التواصل حقا لكل البشر، وليست حكرًا على ممتلكى السلطة أو الثروة أو الجاه، بينما يتجرع الضعيف الفقير المهانة صامتًا. وتكون ممارسة الاختلاف غير مقصورة على من يملك القوة على التعبير عن الاختلاف، بل متاحة لكل من يملك الحق فيه. وحين نصل إلى مجتمع يخلو من الخنوع والتسلط الخطابى، سيجنى الفرد والمجتمع مكاسب هائلة، فالنهضة الحقة تتحقق بفضل تحفيز الحرية والتنوع وقبول الاختلاف، ويقتلها الفساد الذى يرتع فى المجتمع حين نفرض على أفراده الخنوع والصمت.