(لبنان الرادار) يرصد (اضطرابات زلزالية) فى فلسطين
سعد محيو
آخر تحديث:
الأحد 22 نوفمبر 2009 - 10:26 ص
بتوقيت القاهرة
طيلة «حروب الآخرين» على أرض لبنان من 1975- 1989، كان ثمة شبح يُحلّق فى سماء بلاد الأرز كالكابوس اسمه «الارتباط العضوى بين أزمة لبنان وأزمة (أو أزمات) الشرق الأوسط»، خاصة منها القضية الفلسطينية.
وهذا بالطبع كان شعارا صحيحا وإن نسبيا. فالحرب فوق أرض الوطن اندلعت أساسا العام 1975 لتحقيق جملة أهداف دولية وإقليمية دفعة واحدة.
إيجاد بقعة تتنفس منها صراعات الشرق الأوسط، بعد أن وضعت حرب أكتوبر 1973 حدا للحروب النظامية بين العرب والإسرائيليين. وقد وقعت القرعة على لبنان بعد أن تمكّن النظام الأردنى من سحق المقاومة الفلسطينية وطردها من بلاده.
البحث فى إمكانية تحويل لبنان إلى «وطن مؤقت» (قد يصبح دائما) للفلسطينيين، خاصة بعد أن تحوّلت الحركة الفدائية الفلسطينية المُبعدة من الأرض إلى دولة داخل الدولة فى لبنان.
وهذا كان يفترض فى الدرجة الأولى ترحيل قسم كبير من المسيحيين بالسفن إلى المنافى (كما اقترح رسميا المبعوث الرئاسى الأمريكى آنذاك دين براون على الرئيس سليمان فرنجية)، ثم تصفية أو تشتيت الحركة الوطنية (اليسارية) اللبنانية التى تقاطعت مصالحها فى تلك الحقبة فى البداية مع مصالح المقاومة الفلسطينية.
لماذا تذكّر هذه الوقائع الآن؟
لسببين مُقنعين:
الأول، أن لبنان لايزال مرصد منطقة الشرق الأوسط ورادارها. وأزماته لا تزال مرتبطة بأزمات الشرق الأوسط، وفى المقدمة منها القضية الفلسطينية. وهذا ليس فقط لوجود نحو 300 إلى 400 لاجىء فلسطينى على أرض لبنان، ومعهم فصائل مسلّحة لا تزال تحتفظ بكامل عديدها وعدتها تدين بالولاء لسوريا وفتح وغيرهما،
بل أيضا لأن حزب الله يرفع شعار تحرير فلسطين ويقيم أوثق الصلات مع حركة حماس، إلى درجة أنه نفّذ هجمات نوعية على إسرائيل العام 2006 لتخفيف الضغط العسكرى عن حماس، من دون أن يدرى أن ذلك سيؤدى إلى اندلاع حرب 2006 الشاملة (كما اعترف لاحقا السيد حسن نصر الله، حين قال إنه لو كان يعرف أن العمليات ستؤدى إلى هذه الحرب، لما قام بها).
والثانى، أن التطورات فى فلسطين تقترب من لحظة «تمخضات زلزالية» كبيرة يمكن أن تعيد عقارب الساعة 60 سنة إلى الوراء، بسبب الانسداد الكامل لفرص التسوية والانهيار شبه التام لخيار الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. وفى حال وقع هذا الانفجار، فقد يكون لبنان على موعد مع جولة دموية جديدة من حروب الآخرين على أرضه.
مؤشرات هذا الانسداد الانفجارى فى فلسطين جاءت ليس من تهديد الرئيس محمود عباس بالاستقالة وحسب، بل أولا وأساسا من التصريح الخطير الذى أدلت به السيدة هيلارى كلينتون فى ختام جولتها الشرق أوسطية الأخيرة، حيث قالت:
«لايزال لدى الولايات المتحدة أسئلة جدّية حول المستوطنات، لكننا نفهم أيضا إلى حد كبير أن هذه المسألة ترتبط بالحاجات الأمنية لإسرائيل وبرغبتها فى إقامة حزام يمكن الدفاع عنه حول أراضيها».
هذه كانت خلاصة جولة كلينتون. وهى تعنى فى العمق دعوة إلى تفهّم ضرورات الاحتلال الإسرائيلى. ولم يبق الآن سوى أن يفهم الفلسطينيون بأن عليهم تفهّم هذا التفهّم الأمريكى. إذ إن هذا، كما تجلى بوضوح مؤخرا، أقصى ما تمخض عنه جبل «الثورة التغييرية» الأوبامية.
حسنا. إلى أين الآن من هنا؟
إلى انتفاضتين، لا واحدة.
انتفاضة فلسطينية جديدة تنطلق مجددا من القدس، لكن سيكون عليها هذه المرة الانتفاض ليس على الاحتلال وحسب، بل أيضا على قادة حماس وفتح معا لحملهم على وقف مسيرة انشطارهم الجغرافى والإديولوجى والإستراتيجى الجنونى الراهن.
وانتفاضة إسرائيلية أيضا لاستكمال تهويد ما لم يُهوّد بعد فى القدس والضفة الغربية، بعد أن نالت حكومة نتنياهو الضوء الأخضر ودرع التثبيت الأمريكيين للمضى قدما فى ذلك.
هل نحن نمزح حين نتحدث عن انتفاضة إسرائيلية؟
كلا، البتة... فهذا ما يقوله هذه الأيام الإسرائيليون أنفسهم.
لنستمع، على سبيل المثال، إلى ما قاله أحدهم وهو رون بريمان، رئيس «منظمة بروفسورات إسرائيل القوية» (هاآرتس، 4- 10ــ 2009):
«أجل، الاحتلال يجب أن ينتهى. لكن أى احتلال؟.. إنه الاحتلال العربى للأراضى الإسرائيلية فى الضفة وغزة.
هذه هى الأراضى المحتلة حقا، والتى ارتكب بعض قادة إسرائيل جريمة إعادة بعضها فى أوسلو ثم خلال فك الارتباط مع غزة. بيد أنه ليس ثمة فى الواقع مبرر للانتحار على هذا النحو أو للتضحية بالرؤية الصهيونية على مذبح ما يسمونه السلام».
يضيف: «إننا نرفض حل الدولتين. وإذا ما كان لا بد من حل، فلا يجب أن يتم ذلك غرب أراضى إسرائيل (الضفة وغزة) بل فى الأردن الذى يجب أن ينتقل إليه عرب إسرائيل الحاليون عاجلا أم آجلا. هناك سيكون الحل. لكن فى هذه الأثناء، يجب أن نُنهى الاحتلال: الاحتلال العربى لأرض إسرائيل».
قد يسارع البعض إلى القول أن هذه المقاربة قديمة قدم اليمين الجابوتنسكى، وأنها لم تعد واردة الآن بعد أن قبل حتى بنيامين نتنياهو مبدأ إقامة دولة فلسطينية، بغض النظر عن طبيعة هذه الدولة.
لكن هذا غير صحيح. فهذه الفكرة القديمة ما انفكّت تتجدد كل يوم فى الدولة العبرية، على رغم كل المياه الغزيرة التى تدفقت تحت أرجلها منذ معاهدة كامب ديفيد ومؤتمر مدريد ثم اتفاق أوسلو ومعاهدة وادى عربة. وحين وُضعت إسرائيل فى العام 2000 بين خيارى الدولتين أو الدولة العنصرية الواحدة على النمط الجنوب أفريقى، لم تتردد فى اختيار الثانى.
الآن، خيار الدولتين مات وشبع موتا ما عدا فى الإسم والخطب الدولية البلاغية الرنانة. وبريمان لا يفعل شيئا فى الواقع سوى محاولة رؤية الغابة التى تختفى وراء شجرة موت هذا الخيار. وهى غابة يجب أن يُحسم فيها الصراع بشريعة الغاب وبأنيابها ومخالبها.
ومواقف كلينتون أسبغت الشرعية الأمريكية على كل التوجهات. وهذا ما سيترجم نفسه، قريبا على الأرجح، فى شكل شلالات دم جديدة فى فلسطين والمنطقة.
بيد أن هذا ليس كل ما فى جعبة الإسرائيليين لتصفية القضية الفلسطينية، أو على الأقل «تصديرها» إلى كل من الأردن ولبنان. هناك سلاح آخر يستخدم بكثافة الآن اسمه المياه.
فبعد تقرير جولدستون حول جرائم الحرب الإسرائيلية، جاء الأسبوع الماضى دور منظمة العفو الدولية حول جرائم «السلام» الإسرائيلى.
فالدولة العبرية تمنع الماء عن ثلاثة ملايين فلسطينى فى الضفة الغربية وقطاع غزة، وتفتح كل الصنابير أمام المستوطنين الذين يهدرونها على أحواض السباحة، ومروج العشب الأخضر، وحتى على مزارع السمك فى جرود الضفة الغربية.
80 فى المائة من المياه الجوفية فى الضفة الغربية تذهب إلى المستوطنين (نحو 400 ألف) فيما 3.2 مليون فى الضفة يحصلون على الـ20٪ المتبقية. أما مياه نهر الأردن، وهى المصدر الوحيد الثانى للمياه، فهى محظورة على الفلسطينيين.
تل أبيب تقول إنها غير مسئولة عن هذه المأساة التى تحيق بغزة والضفة معا. لماذا؟ لأن اتفاق أوسلو منحها الحق فى السيطرة على 80٪ من موارد المياه فى الأراضى المحتلة. لكن القادة الفلسطينيين فى الضفة كما فى غزة، الذين شطرهم الصراع على السلطة والتنافس على ادعاء امتلاك الحقيقة خلال الحقبة الأخيرة إلى معسكرين متصارعين، يجدون أنفسهم الآن فى زورق واحد وسط بحيرة لا ماء فيها.
فالمسألة لم تعد قضية احتلال أراضٍ وحسب، بل باتت مسألة حياة أو موت. مسألة صراع بقاء على وجه التحديد لكل «الجماهير» التى يُفترض أن يُمثلونهم. وبالطبع، إذا ما قضت هذه «الجماهير» عطشا، لن يعود ثمة فرصة لا لحكم شعب بلا أرض، ولا للمطالبة بأرض أُخليت من شعبها.
إن تقرير جولدستون سقط على رؤوس القادة الفلسطينيين وهم غارقون حتى أذنيهم فى التنافس على مباهج السلطة الدنيوية. هذا كان التفسير الذى قدم آنذاك لتبرير ما لا يُبرر: القفز فوق الجرائم الإسرائيلية العامة للوصول إلى أغراض سياسية خاصة.
بيد أن تقرير لجنة العفو الدولية يجب ألا يحظى بهذا المصير الغريب نفسه. فلا حماس ولا فتح يمكنهما أن تربح منه واحدة على حساب الأخرى، ولا الضفة الغربية ستتميّز عن غزة فى شح المياه كما حاول الغرب تمييزها على صعيد فرص العمل والمشاريع الاقتصادية. الكل فى المصيبة سواء، والكل فى العطش سواسية.
وإذا لم تتوحّد فتح وحماس فى هذا المجال على الأقل، فمتى تتوحدان؟ حين يصبح شعبهما الذى لا أرض له، شعبا من «اللاجئين المائيين»؟
لبنان.. الرادار يسجّل هذه الأيام ذبذبات فلسطينية قوية على شاشته؟
أجل.
إذن، كل العيون نحو لبنان وتطوراته!