غــزة مشهد ما بعد المعركة
فوّاز طرابلسى
آخر تحديث:
الخميس 22 نوفمبر 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
مع أن الأوان لم يحن للنظر فى مآل العدوان الإسرائيلى، من حيث استبعاد الحرب البرية، وتبيّن كل تعقيدات المفاوضات حول وقف إطلاق النار والهدنة والتهدئة، إلا أن المغامرة فى رسم بعض معالم مشهد ما بعد المعركة قد تفيد فى استخلاص الخلاصات الأولية عن هذه المواجهة.
•••
سوف تتكشف أمور جديدة عن أسباب الهجوم الإسرائيلى وأغراضه. فما من شك فى أن نتنياهو كان يحتاج، لأكثر من سبب داخلى وخارجى، إلى مشهد عسكرى لموسم الانتخابات على عادته فى الموسم الذى سبقه. ولا بد من الملاحظة أن جر حركة «حماس» إلى المعركة اقتضى استفزازاً إجرامياً كبيراً، غير متناسب وأى حادثة حدودية أو عبر الحدود، فكان اغتيال أبرز قادتها العسكريين الشهيد أحمد الجعبرى.
وفى الدوافع رغبة نتنياهو فى استقبال الولاية الثانية لأوباما باستعراض عسكرى جوى يصعب على الرئيس الأمريكى إلا أن يؤيده ومعه إجماع أعضاء الكونجرس الأمريكى، ولو على أمل التعويض عن تأييده السافر لمنافسه الجمهورى. ولن يخفى على نبهاء الاكتشاف أن نتنياهو يكرّر فى غزة لعبته المكشوفة منذ سنوات: يهدد بضرب إيران، ويبتز العالم أجمع بالنووى الإيرانى، ثم يقبض ثمن ابتزازه بالضرب فى فلسطين كيفما اتفق.
وفى تقديرات حصيلة المواجهة، سوف لن تعوزنا التقارير والتحليلات عن أداء الأسلحة الجوية والصاروخية الأمريكية الصنع، الإسرائيلية التطوير، الهجومية منها والدفاعية، بما فيها الطائرات من دون طيار، والدفاعات الجوية من طراز «باتريوت» و«القبة الحديدية» وغيرها. وسوف يلاحظ خبراء أن «حماس» فقدت قسماً كبيراً من قدراتها الصاروخية منذ الأيام الثلاثة الأولى للحرب. ولكنهم سوف ينسون أو يتناسون أن كل سلاح تخسره «حماس» والفصائل الفلسطينية فى غزة قابل لأن يعوّض بأحسن منه وأوفر عدداً وأكثر تطوراً وأشد فتكاً. هذا ما تعلمنا إياه تجربة ما بعد عدوان 2006 فى لبنان وما بعد عدوان 2008 فى غزة على حد سواء.
•••
وسوف تتكشّف كامل أبعاد ما بعد المعركة: مشهد الدماء والدمار. الدمار سوف تكارى عليه أنظمة النفط بالثمن الغالى للدم: اتركوا إيران واقبلوا التهدئة وفضلونا على سوانا فى الوساطات، وتعالوا معنا إلى «التهدئة»، حسب الرواية القطرية مثلاً. وأما الدم فإنه ينادى الدم. القائد الشهيد يحل محله قادة. وابن الشهيد يحمل سلاح أبيه. ومن لم يكن أبوه مقاتلاً يتطوّع هو للقتال. وأمهات غزة وسائر فلسطين ولاّدات، يضربن الرقم القياسى العالمى فى الخصوبة.
إنها المعادلة إياها: المقاومة التى لا تُباد ولا تستسلم، تنتصر. والعدو الذى يسحق خصمه، يخسر، فيؤجّل المواجهة. وبهذا المعنى، سوف تخرج حركة «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى، ومعها الشعب الفلسطينى فى غزة، أقوى من هذه التجربة الدموية أيضاً.
أمران لن يمكن إخفاؤهما فى مشهد ما بعد المعركة: الأول أن الرئيس محمود عباس برّ بوعده فى منع قيام انتفاضة مسلحة فى الضفة الغربية، والثانى أن عدد القتلى فى الأيام السبعة الأولى فى غزة لم يكن قد تجاوز ضحايا يوم واحد فى سوريا.
من جهة أخرى، ترتفع أصوات لتبادل الاتهامات. فمن قائل إن الانتفاضات العربية حرفت الأنظار عن مركزية قضية فلسطين، إلى من يرد عليه فلا يجد فى العدوان الإسرائيلى على غزة غير محاولة لحرف الأنظار عن مركزية الانتفاضة فى سوريا.
•••
بين المركزيتين، ترتسم حقيقة جديدة أو متجددة: إن النزاع العربى الإسرائيلى يستوطن المنطقة العربية، ويتفشى فى كل قضاياها، ويتمفصل فى كل جوانب حياتها وعلاقاتها بالعالم. ولكن لا أولويات بعد الآن. ذلك أن أبرز درس للانتفاضات هو إعادة الاعتبار للداخل، والنزاع العربى الإسرائيلى بهذا المعنى أعلاه «داخل»، ولإعادة التفكير بالمصالح، وتجسير الفجوات وإقامة العلاقات بين الأوجه المختلفة للمطالب الشعبية. فالتضحية بأى وجه من تلك الأوجه تضر بها جميعاً. لم تتقدم قضية التنمية والعدالة والمساواة فى ظل الظلم والتنكر للحريات والحقوق، ولا أحرزت قضايا الاستقلال والنضال من أجل فلسطين والوحدة مكاسب تذكر فى ظل الاستبداد. حتى لا نتحدث عن حصاد الانتكاسات والهزائم. وفى المقابل، يكفى لاستبيان الحضور الوازن لقضية فلسطين فى المواقف المختلفة من الانتفاضات الديمقراطية العربية النظر إلى موقع أمن إسرائيل، وتأمين أنظمة عربية تحميه، فى كامل السلوك الأمريكى تجاه الانتفاضات منذ البداية، وفى الكيفية التى بها تُعاد صياغة الأنظمة الخارجة من تلك الانتفاضات، والخارجة عليها.
إن الامتحان الكبير للانتفاضات الراهنة، من منظار المسألة الوطنية المركبة النزاع العربى الإسرائيلى والسيادات والاستقلالات هو أيضاً امتحان فى المجال الديمقراطى. ذلك أن الإنجاز فى هذا المجال الأخير يعنى أمراً واحداً مؤكداً: الإفساح فى المجال أمام الجماهير العربية بأن يكون لها حضور أوزن فى تقرير مصيرها وطرق حياتها وحرياتها وحقوقها فى اختيار حكامها ومحاسبتهم وتغييرهم. من دون هذا نكون أمام استبدال نظم ونخب استبدادية عسكرية بنخب ونظم استبدادية مدنية تلتقى العولمة الأمريكية فى شقيها: التعريف الدينى للبشر والنيوليبرالية. والمؤكد بالنسبة للجماهير العربية، والرأى العام الشعبى العربى، هو انها حاسمة فى جذريتها تجاه الحقوق الفلسطينية والعربية وطرق التعبير عنها والنضال من أجلها. وليس صدفة أن تتألّب سائر القوى المعادية للانتفاضات، الخارجية منها والمحلية، من أجل إخراج الجماهير، وخصوصاً جماهير الشباب والشابات، من الساحات والشوارع لكل الأسباب مجتمعة: راديكاليتها الديمقراطية والمدنية والاجتماعية والوطنية فى آن معاً.
فى المقابل، طرحت المواجهة الأخيرة، مثل مثيلاتها فى غزة ولبنان، حقيقة أن الصمود العسكرى المقاوم لا يمكن أن يكون بديلاً من السياسة، بمعناها الأوسع الذى يعيد الاعتبار للمصالح والتناقضات والزمن والتمرحل والتراكم. هذا يتراوح بين الصمود والعودة إلى نقطة الصفر، ونحن تحتها، وتحقيق مقادير من التوازن مع العدو وصولاً إلى تغيير موازين القوى. بل ينبغى القول إن الوحدانية العسكرية تسمح بتسريح قوى وطاقات جماهيرية وإعفاء الأنظمة والشعوب والقوى السياسية من المسئولية على اعتبار أن ثمة بؤرتين تتوليان القتال والتضحية بالنيابة عنها، وهى تصرخ وتتضرّع «يا وحدنا!». بل هى أقرب طريقة إلى توليد الإحباطات عندما لا تؤتى الأفعال العسكرية الانتصارات المعقودة عليها.
•••
إن غزة وأخواتها، والانتفاضات العربية، تضع إعادة النظر فى السياسات العربية من النزاع العربى الإسرائيلى فى صلب الحاضر العربى، وإنه لمعبّر حقاً أن تضطر أوساط رسمية عربية، بما فيها الجامعة العربية، أن تبحث فى موضوع إعادة النظر فى الاتفاقات المعقودة مع إسرائيل ومن ضمنها المبادرة العربية للعام 2002.
إن هذا الاضطرار يرسم معالم الطريق لقوى التغيير. ذلك أن الارتقاء إلى مستوى العدوان والالتقاء مع بطولة أهالى غزة والتأكد من أن تضحياتهم لن تذهب سدى، كلها أمور تستوجب وصل القضية الوطنية بحركة الجماهير العربية من أجل العمل والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وتزويدها برؤيا وبرامج وسياسات لتحقيق انتفاضة مثيلة فى الحلقة الفلسطينية وحلقة النزاع العربى الإسرائيلى.
سياسى وكاتب وأستاذ جامعى لبنانى
ينشر بالاتفاق مع جريدة السفير اللبنانية