فلسطين بدون ضفة؟
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 22 نوفمبر 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
واضح تمام الوضوح أن القيادة الحاكمة فى رام الله ليست راضية عن تطور الأمور فى غزة، وتفضل عودة الهدوء، وإن بأى ثمن، وفى أقرب فرصة. تفضل أيضا انفضاض الاهتمام الدولى والاقليمى بحرب الصواريخ الطائرة بين غزة وإسرائيل واحتمالات تطورها. عاشت حكومة السلطة الفلسطينية فى رام الله سنوات فى حالة كمون ووداعة، تحسدها عليها كل النخب الحاكمة، فهى جماعة تستمتع بحواشى السلطة، لا تحكم ولا يحاسبها محاسب، كل وظيفتها أن تفصل بين شعب الضفة وإسرائيل، أى تلعب دور المنطقة العازلة بين عامة الشعب والسلطة الفعلية فى الضفة الغربية.
يتوقع المنطق، فى هذه الحالة، ألا تكون السلطة سعيدة بمن يعكر صفو هذا الهدوء، ويهدد استمرار حالة السكينة، بخاصة فى وقت تستعد فيه السلطة للحصول من الجمعية العامة للأمم المتحدة على مكانة الكيان المراقب فى الأمم المتحدة، وهى مكانة لا تختلف كثيرا عن مكانة فلسطين الحالية فى المؤسسات الدولية، باستثناء يتحمس له بعض المفكرين الفلسطينيين وكذلك مسئولون دوليون مثل الدكتور نبيل العربى، الأمين العام للجامعة العربية، الذى يقول إن هذه المكانة التى تسعى إليها السلطة الفلسطينية بدعم من دول عربية ستجعل فلسطين فى نظر القانون الدولى دولة محتلة وليس مجرد أراضٍ محتلة.
•••
أمريكا مثل إسرائيل لا تريد، وضغطت على الاتحاد الأوروبى لتقف الدول الأوروبية ضد مساعى السلطة الفلسطينية، وهناك دول عربية غير متحمسة ربما لأن أمريكا لا تريد، أو لأنها لا ترى فائدة كبرى من وراء هذا القرار الذى قد يؤدى على العكس إلى تعطيل «مسيرة السلام» التى يأملون أن تكون نية الرئيس أوباما العودة إليها قبل أن يغادر واشنطن إلى غير عودة.
ولكن أمريكا لا تريد لأنها أيضا قلقة أكثر من أى وقت مضى. أمريكا قلقة لأن لدى حكومة أوباما تصورات شبه واضحة عن تحولات كبرى فى السياسة الخارجية الأمريكية ليس بينها ما يتعلق بتسويات الشرق الأوسط وبخاصة الصراع العربى الإسرائيلى. ما زال الجهاز المؤيد لإسرائيل باقيا فى البيت الأبيض، وما زالت مواقف أوباما المنبثقة تجاه الصراع تثير الجدل بين حلفائه وخصومه على حد سواء، يبدو أيضا أن أوباما ما زال فى نظر أصدقائه فى شيكاغو «الصهيونى المعتدل». (راجع كتاب Beinart بعنوان The Crisis of Zionism الصادر مؤخرا.
إدارة أوباما قلقة لأسباب أخرى، قلقة لأنها تعرف معرفة أكيدة أن الكونجرس يستعد لها بأسوأ معاملة وأشد عناد، بخاصة فى موضوعين هما الإصلاح المالى وإسرائيل، ومستعد لفرض الشلل التام على أداء الحكومة لو حاول أوباما تحقيق تقدم فى أى من الموضوعين.
من ناحية أخرى، صدر عن مقربين من بعض أجهزة صنع السياسة الخارجية الأمريكية أن واشنطن لا تريد أن تكون العلاقات الإسرائيلية المصرية الضحية الثانية بعد العلاقات الإسرائيلية التركية. إن مصر، رغم كل ما يبدو عليها من مظاهر ضعف وفوضى، ما زالت الثمرة الكبرى لعملية السلام التى بدأتها أمريكا فى كامب ديفيد. وهى لا تريد أن تفقدها ولن تسمح بذلك. المؤكد أن واشنطن لا تتمنى أن ترى إسرائيل منعزلة أو تشعر بالوحدة، لأنها تعرف أن إسرائيل المنعزلة أخطر على السلام والاستقرار من أى طرف آخر فى الاقليم. وهى تخشى أن يكون هذا هو هدف نتنياهو وحلفائه اليمينيين خلال الشهرين القادمين استعدادا لانتخابات يناير القادم.
وهى قلقة لأن الربيع العربى، وإن ظهر للكثير من الدول أنه خمد أو فقد زهوه، ما زال يفرز صورا جديدة للسياسة والسياسيين فى العالم العربى، وما زالت أمريكا تحقق بسببه أو فى ظله، مكاسب لا بأس بها على صعيد علاقاتها بأنظمة الحكم الجديدة، كما فى مصر وتونس. تبقى المشكلة الكبرى لدى أمريكا والدافع الأساسى لقلقها وهى أن الربيع العربى غير قابل للتنبؤ أو استخدامه لاستشراف المستقبل.
المثال على ذلك علاقة أمريكا بمصر، إذ بينما تبدو إسرائيل غير واثقة أو مطمئنة إلى أن الحكام الجدد فى مصر يحملون لاتفاقيات السلام نوايا طيبة، تبدو أمريكا ضاغطة على إسرائيل لتطوير منظومة أمنها وسياساتها الخارجية لتكون أكثر تقبلا للتعامل مع حكومات إسلامية، ليس فقط فى مصر وتونس، ولكن فى كل أنحاء العالم العربى ومنه قطاع غزة ووسط آسيا.
•••
تحدث فى الوقت نفسه تطورات مهمة على صعيد الطرف الفلسطينى فى الصراع. لا شك أن غزة اختلفت مكانة وقوة عن غزة فى أى وقت آخر، يتأكد هذا الأمر من ملاحظة أن إسرائيل تفرغت فصارت تخصص عداء أوفر وأعنف لغزة من مخزون عدائها للفلسطينيين عموما وبخاصة أهل الضفة. بل يكاد المراقب يثق فى أنه لا عداء يذكر يتبادله فى الظاهر على الأقل حكام رام الله وحكام تل أبيب، حتى إن الطيب عبدالرحيم، أحد أعوان الرئيس الفلسطينى، تنبأ مؤخرا بأن إسرائيل سينتهى بها الأمر أن تعامل غزة كفلسطين وتعامل الضفة الغربية كيهودا والسامرة. كثيرون فهموا هذا التصريح على أنه اعتراف بما آلت إليه أحوال الضفة من خضوع أو إخضاع شبه كامل لإرادة إسرائيل، ويكاد الصراع بالنسبة لها يتدنى إلى ما تمنت إسرائيل أن يتدنى إليه، ويكاد الرئيس عباس يدعم هذا الرأى بتصريحه الشهير عن نيته عدم العودة إلى مسقط رأسه فى مدينة صفد بالجليل إلا سائحا. بمعنى آخر وواضح كل الوضوح تنازل الرئيس الفلسطينى عن حق فلسطينى بدون تفاوض أو مقابل. تركنا ولسنا من الفلسطينيين نطالب بحق الفلسطينيين فى العودة، أو لعلها رسالة لنا جميعا بالكف عن المطالبة بهذا الحق.
•••
فجأة لاحظنا كيف تبدل اهتمام الحكومات الأوروبية والعربية ذات الفوائض المالية وتركيا وإيران فراح ناحية غزة، وبعضها أعطى ظهره كلية إلى «فلسطين السلطة» كما صاروا يسمون الضفة.. لماذا هذه الاستدارة إلى ناحية غزة على حساب السلطة والضفة وربما على حساب «فلسطين الكبرى»، الطرف الأساسى «سابقا» فى الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى، وفى الصراع العربى ــ الإسرائيلى. زاد اهتمامى بمراقبة تبدل الاهتمام بقطاع غزة، منذ أن لفتت انتباهى التقارير التى تصدرها مؤسسات دولية مهتمة بالقطاع. يقول تقرير منظمة العمل الدولية إن هناك أكثر من 600 مليونير فى غزة كونوا ثرواتهم من تجارة الأنفاق وأن تراكما رأسماليا قد حدث، وأن معدل البطالة انخفض، وأن استثمارات خليجية ضخمة، بخاصة من الإمارات وأخيرا من قطر والسعودية، انهمرت على غزة فى العامين الأخيرين وأن بعض هذه الاستثمارات وكثير من المعونات كانت موجهة فى الأصل إلى الضفة وجرى تحويلها إلى قطاع غزة. ويذكر أحد السياسيين الأتراك، أنهم وأغنياء كثيرون من العرب حولوا اهتمامهم إلى غزة عندما شعروا أن معوناتهم للضفة تدعم هيمنة الاحتلال وتسهم فى عزل شعب الضفة عن العرب وتساعده على القبول بالأمر الواقع.
هؤلاء لديهم معلومات عن تطورات الأوضاع فى الأراضى الخاضعة للسلطة الفلسطينية ما يبرر خوفهم على مستقبل فلسطينيى الضفة. يشرح أحد المطلعين على مجريات الأمور فى الضفة تجربة «إسرائيلية أوروبية فلسطينية» تقضى بتقديم قروض لشباب الضفة، الجامعيين وغيرهم، بمبالغ فى حدود من 150 إلى 200 ألف دولار، يسددها الشاب الفلسطينى على أقساط طويلة الأجل، بشروط عديدة. بما يعنى أن هناك محاولات، غير ما أقدمت عليه قوى الأمن الداخلى وعدد أفرادها تجاوز 50 ألفا وإعلام السلطة ودعايتها، لإثناء الشباب الفلسطينى عن العمل بالسياسة أو النضال ضد إسرائيل أو كشف الفساد فى دوائر السلطة، والتعويض عنها بالالتزام بالاستقامة السياسية باعتبارها ضمانة لسداد القرض.
•••
الآن، أفهم، هذا الغموض الغريب الذى يلف أجواء الضفة. أفهم أيضا لماذا تمتنع ريح الربيع العربى عن الدخول إلى فلسطين، وأفهم لماذا اختلفت غزة واختلف نمط تعامل الدول العربية معها عن تعاملها مع السلطة.
يريدون أن نفقد الأمل فى عودة القدس والضفة ونقنع بدولة فلسطينية فى غزة. لن نفقد هذا الأمل ولن نقنع بغزة.