تكامل التكنولوجيات

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 6:40 م بتوقيت القاهرة

 

سؤال موجه للجيل الجديد من الباحثين، هل تختار تخصصك حسب الموضة الموجودة؟ أم حسب ما تحب؟ أم حسب التخصص الذى يأتى بوظائف بمرتبات مرتفعة؟ السبب الثالث مرتبط بالأول إلى حد ما وإن كان الأول به بعض «الوجاهة الاجتماعية». لن نتكلم عن اختيار التخصص بالغصب سواء من الأهل أم من مكتب التنسيق، فهذا موضوع آخر غير متعلق بمقال اليوم. هذا السؤال الذى بدأنا به المقال يمكنه اعتباره همسة فى أذن الباحثين ولا أقول نصيحة لأن الجيل الجديد لا يقبل النصيحة المباشرة، اختر ما تحب وابرع فيه. الاختيار «بالموضة» قد يجعلك تختار تخصصا لا يناسب قدراتك أو طريقة تفكيرك، والاختيار بالمرتب هو رهان على المستقبل غير مضمون لأن التقدم التكنولوجى يسير بخطى متسارعة وما هو «موضة» وقت دخول الجامعة قد لا يكون كذلك وقت التخرج.

الموضة الآن هو الذكاء الاصطناعى وبالتحديد نوع معين منه يسمى تعليم الآلة (machine learning). هذا التخصص سيستمر معنا عدد غير قليل من السنين لكن لا يعنى ذلك أنه سيظل موضة. يمكننا تقسيم سوق العمل فى هذا التخصص إلى ثلاث أسواق:

               •              المتخصص فى نظريات الذكاء الاصطناعى وتطورها وتحسينها: هذه سوق كبيرة نسبيا لكنه قد لا يكون مرشحا للزيادة لأنه يشتمل فى الأغلب الأعم على الباحثين فى الدراسات العليا أو الوسط الأكاديمى أو الباحثين فى مراكز الأبحاث فى الشركات. لكن لقلة عدد من يعمل فى هذا المجال (عدد الحاصلين على الدكتوراه فى أمريكا مثلاً 3% من عدد السكان) فإن مرتباتهم فى الأغلب تكون مرتفعة.

               •              المتخصص فى استخدام الذكاء الاصطناعى فى التخصصات المختلفة مثل الطب والاقتصاد والتاريخ إلخ: هذه هى السوق المرشحة للزيادة لأن الذكاء الاصطناعى أصبح يتغلغل فى جميع مناحى الحياة وبالتالى يحتاج متخصصين لتطبيقه فى جميع المجالات. لا توجد كلية واحدة لهذه السوق لكنه يشمل جميع الكليات تقريبا فنحن نريد عالم الآثار المستفيد من الذكاء الاصطناعى والجغرافى المستفيد من الذكاء الاصطناعى إلخ.

               •              المتخصص فى دراسة تأثير تطبيقات الذكاء الاصطناعى المختلفة على الناس: وهذه سوق محدودة لكنه مهم ويشمل علماء النفس والاجتماع وخبراء التسويق.

لنمض فى حديثنا عن الذكاء الاصطناعى ونقول إنه حتى يستمر معنا فإنه يحتاج إلى تخصصات أخرى وبدونها لن يتقدم هذا التخصص، وبالتالى فإن تلك التخصصات الأخرى مهمة ولها سوقها الكبيرة وتشمل:

               •              تصميم وتشغيل وصيانة الحاسبات فائقة السرعة لأنها المستخدمة فى عملية «تعليم» الآلة، بدون هذه الحاسبات فلن يكون عندنا برمجيات مثل (ChatGPT).

               •              علوم البيانات: وهو التخصص المسئول عن تنقية البيانات وتصنيفها بحيث تُستخدم فى تعليم الآلة بالطريقة المُثلى.

               •              وسائل تجميع البيانات كثيرة ومتعددة ولا تعتمد فقط على المعلومات التى يضعها الناس على الانترنت سواء أثناء استخدام وسائل التواصل الاجتماعى أو أثناء استخدام الخدمات الرقمية، ولكن هناك بيانات يتم تجميعها من أجهزة كمبيوتر صغيرة جدًا تعرف باسم انترنت الأشياء (Internet of Things)، وهى منتشرة جدا فى الكثير من المجالات، تصنيعها وبرمجتها سوق كبيرة ومن المتوقع أن يزداد حجمه نظرا لأهميته بالنسبة للذكاء الاصطناعى وأيضا بالنسبة لبناء المدن الذكية والسيارات ذاتية القيادة إلخ. 

بقية المقال يتحدث عن هذا الكمبيوتر الصغير جدا، فما هو.

...

انترنت الأشياء هى أجهزة صغيرة (الأشياء) تستطيع القيام ببعض القياسات مثل درجات الحرارة أو سرعة الرياح أو عدد السيارات التى تمر أمامها إلخ ثم ترسل تلك القياسات عن طريق الانترنت (ومن هنا جاءت تسمية «انترنت» الأشياء) لأجهزة كمبيوتر لتحليلها، هذه كانت البداية: مجرد أجهزة قياس متصلة بالإنترنت ومتصلة ببعضها.

مع تطور أجهزة الكمبيوتر وهو تطور فى السرعة والحجم معا أصبح بالإمكان وضع جهاز كمبيوتر صغير داخل انترنت الأشياء وبالتالى أصبح الجهاز يقوم بالقياس وببعض التحليلات لما تم قياسه، ثم يتم إرسال تلك التحليلات عبر الانترنت لأجهزة كمبيوتر أقوى لتقوم بتحليلات أكثر عمقا. هذه البيانات التى تم جمعها ثم تحليلها تساعد فى اتخاذ قرارات معينة مثل تغيير اتجاه المرور فى شارع معين لتفادى الاختناقات المرورية أو جعل سيارة ذاتية القيادة تهدئ من سرعتها أو تحذير الطيار إذا ما زادت حرارة محرك الطائرة أو للتنبؤ بالأعطال إلخ. هذه البيانات أيضا وتحليلاتها تساعد فى تعليم الآلة فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى.

بعد هذا التطور فى انترنت الأشياء أصبح بالإمكان أن نطلق عليها «انترنت الأشياء الذكية» وهى من أهم مقومات الثورة الصناعية الرابعة. لكن هناك مشكلة يجب أن يجيد من يعمل فى مجال انترنت الأشياء الذكية التعامل معها.

...

هذه «الأشياء» صغيرة الحجم وبالتالى لا يمكن وضع بطاريات كبيرة داخلها وفى نفس الوقت المطلوب أن تظل تعمل لشهور، فمن أين تحصل على الطاقة؟ هذا مجال خصب للبحث العلمى والتطوير ويُسمى (power harvesting) أو «حصاد الطاقة» حيث تحاول تلك الأجهزة الصغيرة الحصول على الطاقة بطرق مختلفة سواء عن طريق الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح أو طاقة الحركة، بل إن هناك أبحاثا وتصميمات للحصول على الطاقة من موجات الراديو اللاسلكية. هذا يقودنا إلى المشكلة الثانية وهى متعلقة بالأولى.

قد تفشل تلك الأجهزة فى الحصول على الطاقة اللازمة للتشغيل لمدة ثم تحصل على حاجتها ثم مرحلة أخرى من الطاقة القليلة وهكذا، مثلاً قد يمر وقت بدون رياح أو ضوء ثم تشرق الشمس إلخ. هذا معناه أن الجهاز قد يعمل بكل قوته فترة ثم يعمل بنصف قوته أو أقل وقد يتوقف لبعض الوقت ثم يعمل بكامل قوته مرة أخرى. كتابة البرمجيات لتلك الأجهزة (لا حظ أنها أجهزة كمبيوتر صغيرة وبالتالى تحتاج برمجيات) يجب أن يأخذ هذا السيناريو المتكرر فى الاعتبار، لذلك برمجة تلك الأجهزة مختلفة عن البرمجة العادية.

المهم أن تلك الأجهزة تجمع كما مهولا من البيانات على مدار الساعة لأنه يمكن استخدامها فى الأراضى الزراعية وعلى الطرق السريعة وفى حظائر الحيوانات وفى السيارات والطائرات إلخ. هذا الكم من المعلومات يحتاج شيئين: التحليل والتخزين.

...

الكم الكبير من البيانات يحتاج تحليلا وترتيبا (راجع ما قلناه عن علوم البيانات والحاسبات فائقة السرعة فى بداية المقال) وتخزين. إذا بالإضافة إلى علوم البيانات والحاسبات فائقة السرعة فهناك تكنولوجيا تخزين المعلومات التى تتطور بشكل سريع جدا ولها سوق واسعة تزداد أهميته مع الوقت لأنه كلما تقدمت التكنولوجيا كلما زاد حجم البيانات التى يتم جمعها.

كل دولة أو مؤسسة أو شركة يجب أن يكون عندها سياسة معلوماتية تحدد الآتى:

               •              ما هى البيانات التى نرغب فى جمعها؟

               •              فيما سنستخدم تلك البيانات؟

               •              إلى متى سنحتفظ بتلك البيانات قبل مسحها لتخزين بيانات جديدة؟

بدأنا المقال بالحديث عن الذكاء الاصطناعى باعتباره «موضة العصر» ولكنك الآن ترى كم التخصصات الأخرى التى تحتاج متخصصين.

...

ماذا نستخلص من كل ذلك؟ أنه عندما يكون هناك تخصص مشهور ويعتبره الناس «موضة العصر» فإن هذا التخصص لا يستطيع أن يقف وحيدا لكنه يعتمد على تخصصات أخرى وتُعتبر هى الأخرى ذات سوق عمل واسعة، وبالتالى فليعمل كل شخص فى التخصص الذى يحبه ويبرع فيه فبالتأكيد يمكن استخدام هذا التخصص الذى يحبه لخدمة التخصص المشهور، فهناك دائما طريق يصل بين التخصصات لكنه قد يحتاج بعض خيال لكشفه.

التكنولوجيات تتكامل كما تتكامل العلوم.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved