للحلم بقية فلا مساحة لليأس
خولة مطر
آخر تحديث:
الجمعة 23 يناير 2015 - 8:20 ص
بتوقيت القاهرة
كأن الحلم قد تسلل من الخيال إلى تراب الأرض فى الميدان بل الميادين.. راح الحلم يداعب القلوب النابضة بشىء من الجديد القادم.. هم جاءوا أفرادا وجماعات نثروا بذورا لصور وطن قادم أو وطن كما يجب أن يكون.. وقفوا النهار والليل، اصطفوا نساء ورجالا، توحدوا ربما رغم تلاوينهم واختلافاتهم.. اسقطوا الحواجز كل الحواجز لا جنس ولا عرق ولا لون ولا دين ولا طائفة ولا طبقة.. ارتفعت حناجرهم الندية تردد مرات ومرات «الشعب يريد» رددوا مرارا علهم يسمعون!! على أولئك الجاثمين على صدر الوطن، المسترخين فى أرائكهم الوافرة والمنغمسين فى ملذاتهم الحسية، والمتحدين فى سرقة الوطن كل الوطن بترابه ومائه، بحره وخيراته، نفطه وزرعه وما تبقى من بعض صناعاته المسكينة.
•••
تزينت الميادين بنقوشات الأجساد الطرية أليست الاوطان تزين بأهلها. رفعت اليافطات الكبيرة بعبارات وصور وارتفعت الموسيقى من مكبرات الصوت تردد أغانى الحماس الأولى، تلك التى ولسنوات طويلة عزلت حتى تراكم التراب والغبار عليها وخيل للبعض أنها بذلك انتهت ومحيت من مخيلة الجيل الجديد الذى لم يعشها، أما ما تبقى من ذكريات للجيل السابق فلا جدوى منه ذاك الذى شهد السقوط خلف السقوط حتى اشتد عليه المرض من شدة رطوبة زنازينهم وتعب جسده من كثرة الضرب والتعذيب الذى هو نمط حياة فى سجونهم ومعتقلاتهم!!! ذاك الجيل الذى وضع اللبنة الأولى لنضال كان حتما قد طال طويلا وضعف فى لحظات وكثرت عليه السكاكين لإسقاط من تبقى من حملة الراية الأولى.. تحكى جدران سجون الوطن من المحيط إلى البحر إلى الخليج عن قصص لأشخاص مروا من هناك ولم يكن هناك من يحن عليهم أحيانا سوى تلك الجدران تسجل التواريخ الماضية والمتبقية وتحفر عبارات تبقى كذاكرة لتلك الأوطان التى كانت لا تعرف سوى العذابات المستمرة لعقود طويلة.. لم يكن الحاكم أحن من المستعمر بل أحيانا كان الأخير أكثر حنية أو ربما التزاما ببعض المعايير.
•••
عادت الصورة من جديد بعد تداعى الذكريات للميادين.. ها هى ذكراها تحل تتقارب التواريخ حيث صرخة المدن الواحدة تلو الاخرى للمرة الاولى منذ عقود تنتشر العدوى البهيجة للمرة الأولى يقف العربى هنا والعربية هناك ويتبادلون الرسائل المحرمة ليس فى العشق والحب فقط بل وفى ذاك الهيام الأكبر.. يقول التونسى للمصرى لا تتوقف مهما هاجمتك الدبابات والجمال والخيول، يهمس المصرى لليمنية قفى فى الميدان لا تبارحيه فالنصر هنا وبريق النور يزهو رغم عتمتهم، يعيد اليمنى التكرار على الليبى لا تخف رغم أنهم وخلال سنين طويلة قطعوا عنك كل مقومات الحياة حتى لم يتبق سوى نسمة باردة يحملها البحر المتوسط من شواطئه الشمالية والشرقية والغربية. يقف المصرى من جديد ليقول للواقفين فى ميدان اللؤلؤة كونوا بصبر وصمود صائدى لؤلؤكم محتضنى البحر لشهور ستة طويلة، ملتحفى السماء ولا زاد ولا زواد إلا بملح ماء البحر المعمد بعذوبة الينابيع!!
•••
بضعة أشهر تمر بل سنين وكأنها الدهر.. توصد الميادين أبوابها أو تغلق عنوة أو تهدم تحت جرافاتهم.. بعضهم تنفس الصعداء وراح يردد «ها قد أنهينا الميادين وسكانها بل عشاقها» فلتعد الحياة كما كانت قالوا من هناك فى مدن تخاف الميادين أكثر من خوفها من ذاك الرابض على حدودها المستوطن كالجرثومة أو السرطان!!! أثارت الميادين الرعب فى الأوطان الراكدة بل الراقدة فى حضن الاستهلاك!!! لا حديث عن ذاك الشعب الذى يريد، فما يريد الشعب إلا أن يبقى الحال كما هو عليه، هكذا قالوا وأكثروا القول مرارا وتكرارا حتى صدقوا شعاراتهم الفارغة.. هى بضعة أيام وتنتهى أسطورة الميادين وندفن الأحلام البضة هناك حيث استيقظت.... ربما نجحوا فى نشر حالة من البؤس والهزيمة ربما؟؟!! وربما لكثرة تكرارها وعودة شعاراتهم الممجوجة وبريق ذهبهم ونفطهم الذى أعمى بعض العيون إما انهزاما أو خوفا أو حتى يأسا.. صورة الحلم الأولى اهتزت بعض الشىء وحمل البعض شىء من أمتعته وقرر الهجرة لأن هذه الأرض لا تنبت إلا الشياطين وتئد الأحلام وهى فى المهد هكذا قال بعض الصغار الذين سقوا بدماء اصدقائهم أرض الوطن.
لا يمكن إلا أن تنبت الدماء حرية ولو بعد حين ولا يمكن إلا أن يبقى الحلم فى خزائن الذاكرة المضيئة حتى يخرج لينير ليس الميادين فقط بل كل الأرض العطشى.. فالحلم لا يفنى، قد ينهزم لحظة، قد يخفت بعض الشىء قد يطول الزمن ولكن الكون لم يخلق فى يوم ولا الثورات تخلق فى أيام بل بعض من السنين وكثيرا من التضحيات والدم النقى المعطر بالعوسج والياسمين.
بعض من الحلم لا زال هنا فخزنوه.. لا زالهناك متسع من الوقت لا زالت هناك فسحة من الأمل..