تغيير عصى على الإلغاء
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
السبت 23 يناير 2016 - 11:20 م
بتوقيت القاهرة
لن تكون عمليات التغيير المجتمعية والسياسية التى أطلقتها الثورات العربية سوى عميقة التأثير، وطويلة المدى، وغير قابلة للإلغاء.
تراجعت مصر بقسوة خلال العامين الماضيين، إلى الحد الذى تلاشت معه آمال الكثير من الناس فى مجتمع حر ودولة وطنية عادلة. أحكمت الأجهزة الأمنية قبضتها وأطلقت يدها القمعية، فأماتت السياسة وحاصرت المجال العام وأنتجت عبر وسطائها وممثليها المتنوعين الكثير من الضجيج والصخب فارغى المضمون إن فى المساحات الإعلامية أو فى سياق مشاهد انتخابية هزلية أو داخل مؤسسات تشريعية مشوهة. مستندة إلى قوانين بائسة كقانون التظاهر وقانون الكيانات الإرهابية ومنتشية بغياب ضمانات فعالة للشفافية وللمساءلة والمحاسبة، تورطت الأجهزة الأمنية فى مظالم وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان والحريات وصنعت بيئة مجتمعية عالية التوتر وقابلة للعنف. ولم يقف التورط فى الظلم عند حدود الأجهزة الأمنية، بل تعداها باتجاه مؤسسات رسمية أخرى لم تعد تحظى بالثقة الشعبية التى كانت لها من قبل وباتجاه النخب الاقتصادية والمالية التى عمق اعتياشها على ثنائية «تأييد الحكم نظير الحماية والعوائد» من الشروخ المجتمعية.
شهدت مصر هذه التراجعات خلال العامين الماضيين. وسبق ذلك تعثر الانتقال الديمقراطى بين يناير 2011 ويوليو 2013 بسبب خطايا كثيرة ارتكبتها الحركات الإسلاموية والليبرالية واليسارية التى شاركت فى الحياة السياسية، كان أشدها وطأة:
1) الاستعلاء على مطالب الناس الاقتصادية والاجتماعية وتجاهل أن هدفى العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد مثلا مع الأمل فى الحرية حجر الزاوية فى الاحتجاجات الشعبية الكثيرة قبل وبعد يناير 2011.
2) تورط جميع المشاركين فى الحياة السياسية فى صراعات حول هوية المجتمع والدولة ودور الدين فى السياسة والموقف من حقوق المواطنة المتساوية على نحو صنع حالة من الاستقطاب الحاد، وأخاف قطاعات شعبية واسعة كانت ترفض احتكار السياسة زيفا باسم الدين وتبحث عن مواطنة لا تمييز بها بسبب الدين أو المذهب، وأنتج انطباعا عاما بتهافت ممارسى السياسة وعجزهم عن الاهتمام بقضايا الناس الحقيقية، قضايا الخبز والوظيفة والظروف المعيشية وخدمات التعليم والصحة والرعاية.
3) نزوع الحركات الإسلاموية، مدفوعة بغرور النجاحات الانتخابية المتتالية، إلى الاستئثار بإدارة شئون الحكم والسلطة، وسعيها إلى التحالف مع مؤسسات رسمية ونخب اقتصادية ومالية لم تتحمس أبدا للانتقال الديمقراطى، وإسقاطها لمبادئ احترام حقوق الإنسان والحريات وإصلاح الأجهزة الأمنية وإعادة صياغة العلاقات المدنية ــ العسكرية على نحو ديمقراطى من حساباتها.
4) استعداد الحركات الليبرالية واليسارية للمساومة على الآليات الديمقراطية وانقلابها على صناديق الانتخابات التى كان يمكن لها أن تباعد بين الإسلامويين وبين الحكم والسلطة إن كانت الليبرالية المصرية واليسار المصرى قد استثمرا فى بناء القواعد الشعبية واحترما حرية المواطن فى الاختيار دون وصاية وتيقنا من أن الآليات الديمقراطية كفيلة بتخليص الناس من زيف توظيف الدين فى السياسة وكفيلة أيضا بإظهار تهافت السياسات العامة للحركات الإسلاموية ما لم تبدأ فى التعامل مع السياسة بعيدا عن الشعارات الرنانة.
5) رفض المؤسسات الرسمية، النظامية وغير النظامية، ومعها الشرائح العليا فى الجهاز الإدارى للدولة والنخب الاقتصادية والمالية لانتقال ديمقراطى يهدد مواقعها فى الحكم ومصالحها المرتبطة بالثروة، والمواقع والمصالح هذه استقرت خلال عقود طويلة. بعبارة أخرى، لم تكن مراكز القوة المجتمعية والسياسية مستعدة لقبول الانتقال الديمقراطى بما يتضمنه من تداول للسلطة وسيادة قانون شاملة دون تعهدات صريحة بالحفاظ على حد ما من مواقعها ومصالحها أو دون ضمانات قاطعة بتدرجية الانتقال وبمشاركتها فى إدارته. ودفعها خوفها من انتقال ديمقراطى غير معلوم الجوهر والمضمون إلى محاربته، ثم الانقضاض عليه وتجديد دماء السلطة بعد سلسلة خطايا كارثية للإسلامويين وغيرهم وبعد أن انهارت ثقة الناس فى الحركات السياسية وبدت قطاعات شعبية واسعة جاهزة للعودة إلى الوراء، إلى ما قبل 2011.
على الرغم من ذلك، من عثرات الفترة بين 2011 و2013 ومن تراجعات العامين الماضيين، تظل عمليات التغيير المجتمعية والسياسية التى أطلقتها ثورة يناير فى مصر فاعلة ومؤثرة وعصية على الإلغاء. للحديث بقية.