يا رب ارحم حمدى رزق
سامح فوزي
آخر تحديث:
الثلاثاء 23 يناير 2018 - 9:51 م
بتوقيت القاهرة
كتابة المؤرخين تتوه معها فى التفاصيل، وكتابة المحللين يربكك فيها التجريد والتفسير، وكتابة السياسيين تقذفك تحيزاتها يمينا ويسارا، أما كتابة التوثيق الاجتماعى الذى يجمع ما بين المعلومة، والتعليق على الحدث، والرأى، والانفعال أحيانا تشعرك بنبض المجتمع، وبالتحولات التى تعتمل بين جدرانه، وأصداء التغيير.
عندما يأتى يوم نريد أن نعرف فيه ما حدث فى مرحلة تاريخية معينة قد يمتعك أن تقرأ كتابا يتناول أحداثا، وتعليقات، وبعض الوثائق، وايضاحات الهوامش على النحو الذى فعله الكاتب المتميز حمدى رزق فى كتابه «كيرياليسون فى محبة الأقباط». اختار الكاتب كلمة «كيرياليسون» التى تعنى «يا رب ارحم»، من الكلمات المحببة، التى يكثر ترديدها فى صلوات الأقباط، اختارها ربما لأن جرعة «الشجن» زائدة فى الكتاب، ولمَ لا؟ فهى فترة مفعمة بالتحولات، وليس كل ما فيه جيد.
الكتاب الذى زاد على الأربعمائة صفحة ذكرنى بكتاب آخر – غير معروف على نطاق واسع ــ حتى بين المهتمين بدراسات الأقباط، لم أجد سوى المؤرخ الدكتور عاصم الدسوقى يعرفه جيدا، هو كتاب «فرق تسد»، كاتبه هو طبيب من أبو قرقاص هو زغيب ميخائيل، نشره عام 1950م، وقدم له المفكر سلامة موسى. يحوى الكتاب شهادة إدانة لما عرف فى تاريخ مصر بالعهد الليبرالى من خلال رصد مشكلات قبطية جديدة ــ إلى جانب هموم أخرى متوارثة ــ مثل عدم تخصيص برامج فى الإذاعة للأقباط والقيود التى تعترض بناء وترميم الكنائس وحرمان من سماهم الكاتب نوابغ الطلاب الأقباط من البعثات الدراسية فى الخارج، إلخ.
أتذكر أننى كتبت عن هذا الكتاب مقالا ثم بعد أيام وجدت من يطلبنى على الهاتف هو حفيد الكاتب زغيب ميخائيل، وطلب لقائى فى أحد أندية مصر الجديدة، كرمنى بإعطائى نسخة أصلية من الكتاب، وروى لى أن جده اضطر أن يترك أبو قرقاص بعد هذا الكتاب، حيث تعرض منزله للاعتداء، وجاءوا إلى القاهرة.
بالطبع طبيب يكتب كتابا يحاول فيه أن يوثق قصصا، ويسجل رأيه، أما كاتب بوزن حمدى رزق فهو يستطيع أن ينتج مادة شيقة تجمع بين الرواية، والرأى، والمشاعر، والاتجاهات. شهادة قبطى عن حالة ــ رغم صدقها ــ مجروحة، أما شهادة كاتب مسلم ملء السمع والبصر فلا أحد يستطيع أن يطعن فيها، ولا سيما أنها توثق «شجون مجتمع» وليس الأقباط فقط.
أظن أن كتاب حمدى رزق شأنه شأن كتاب زغيب ميخائيل، رغم الفرق بينهما فى أشياء كثيرة، يوثق تحولات مرحلة لها ما لها وعليها ما عليها، ولا يستطيع باحث حاضرا أو مستقبلا أن ينظر فى الشأن القبطى إلا ويمر على هذين الكتابين إما من باب المعرفة، أو النقد، أو التعرف على هذه الكتابة الاجتماعية الخالية من اللغة البحثية الخشنة، وفخاخ الساسة.
هناك من الأقباط من كتبوا عن أنفسهم، ولكنى أظن أن هناك من المسلمين من كتبوا عنهم أفضل، وأصدق، وأجرأ، لا أريد أن أعدد أسماء فهم كثر، حمدى رزق أحدهم، فعلها مثلما فعلها غيره ليس فقط من أجل أهله الأقباط، ولكن من أجل المسلمين أيضا، حتى يعيشوا فى بيئة تعددية متسامحة، ويظل «الإسلام المصرى» قادرا على استيعاب الآخر، وليس كما يصوره أصحاب الوجوه العابسة.