احتجاجات + مظاهرات = ؟
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 23 فبراير 2009 - 10:41 م
بتوقيت القاهرة
يبالغ البعض في تصوير الدلالات السياسية للاعتصامات والإضرابات التي تقوم بها بعض فئات المجتمع المصري من أجل مطالب فئوية والتي أظن أنها لن تكون ذات دلالات كبيرة في بنية النظام السياسي المصري. وهذه أسباب خمسة محتملة لثقافة اللا حركة الجماعية التي تغلب على المجتمع المصري.
1- نظرية القدرة على التكيف بالحيلة والاعتدال السلبي: وأجد أفضل تجسيدا لهذه النظرية في كلام جمال حمدان: "إن مأساة مصر تكمن في نظرية الاعتدال، فلا هي تنهار قط، ولا هي تثور أبدا .. وإنما هي في وجه الأزمات تظل فقط تنحدر.. تتدهور.. تطفو وتتعثر من دون مواجهة حاسمة تقطع الحياة بالموت أو الموت بالحياة".
وحال مصر هي حال المصريين، فضعف مرتبات المدرسين يواجه بالدروس الخصوصية، وضعف مرتبات الموظفين، يواجه بسياسة الدرج المفتوح، وندرة الوظائف الحكومية تواجه بضمان الأب لوظيفة لابنه. وأكثر من ذلك، فإن غلبة الطابع التكيفي على المصريين جعلهم على استعداد للتضحية بالصالح العام مقابل مصلحة ضيقة تحت وطأة الحاجة فيصوت كثير من العاملين في شركات قطاع الأعمال العام أو المؤسسات الحكومية لقيادات الشركة أو المؤسسة..
وحين يدعو قادة الرأي العام جموع المصريين إلى ما قد يتناقض مع المهام الرسمية للموظفين، فإن الأولوية للوظيفة. وهو ما يفسر، جزئيا، لماذا لا يستجيب معظم المصريين لنداءات قادة المعارضة إلى وقفات شعبية أو للعصيان المدني. وهي جزء من تقاليد (مستبد... لكن) التي تبحث وتجد ألف عذر لاستبداد الحاكم. هي عقلية التماهي مع القوي ورفض الخروج عليها بمنطق "من أكل من بيت الكافر، حارب بسيفه".
2- نظرية الحكومة القوية في مواجهة المجتمع الضعيف: وهي نظرية أخرى تنظر إلى الحكومة باعتبارها المسيطرة على المجتمع الموجهة لسلوكه فهي حكومة العصا والبقشيش التي تستخدم العصا في مواجهة من عصى وتستخدم البقشيش لمكافئة من أطاع ووفى.
وأفضل مظاهر قوة الحكومة وضعف المجتمع هو في منطق "دولة البقشيش" التي تعيد توزيع الموارد على حسب المصالح في صورة أراضي وفيلات وشاليهات وامتيازات لكبار رجال الدولة لاسيما القابضين منهم على مهام الأمن بأسعار مقبولة ومتميزة وهي أموال كان من الأفضل حتما أن تنفق على التنمية والتحديث. وعلى هذا يجد المواطن نفسه في مواجهة مع حكومة تكون في قمة أدائها البيروقراطي وهي تقوم بمهام الأمن والاستقرار ثم تتراجع كفاءتها وهي تقوم بما وراء ذلك من مهام تنموية وتحديثية.
3- نظرية المثبطات الاجتماعية بين الدين والكرامات، وتبدو مظاهرها في ملمحين: فهناك أولا الخطاب الديني المثبِّط، وأوضح من تناول هذه النظرية هو كارل ماركس في هجومه السافر على الدين باعتباره أفيون الشعوب، لأنه يستخدم من قبل القائمين على شئون الدولة كأداة لتهدئة المعارضين بوعظهم بشأن جنة الخلد التي سينالها الصابرون القابضون على الجمر من باب أن الثواب على قدر المشقة.
وإذا كان كلام ماركس انطبق تماما على الكنيسة الكاثوليكية حتى القرن التاسع عشر، وحتى إن انطبق على بعض الدعاة المعاصرين الذين يؤكدون على طاعة ولي الأمر ما أقام الصلاة فينا، وكأن المشكلة وحدها هي إقامة الصلاة، فإن ماركس أغفل حقيقة أن اليهودية والإسلام جاءتا كثورة على أوضاع سياسية واجتماعية قائمة، فموسى ومحمد عليهما السلام كانا نبيين عظيمين وثائرين ناجحين.
إن المشكلة حقيقة ليست في الدين بذاته ولكن كيف يوظف، فلو أن الإسلام الذي نمارسه الآن كان هو ما طرحه الرسول محمد على قريش لما رفضته، لأن أغلب الخطاب الإسلامي المعاصر مثبط محبط (بفتح الباء وكسرها). فلا شك أن الآخرة خير وأبقى ولكننا مطالبون أن نكون أسيادا للكون عبيدا لله وهذا من صحيح الإيمان، ولاشك أن التفاوت في الرزق من آيات الله لكن هذا شيء وعدم الرقابة المحكمة على المال العام شيء آخر، والخلط بينهما كالخلط بين صحيح الدين والشعوذة.
وهناك ثانيا المقارنة المثبطة والتي تجعل الكثير من المصريين يقارنون مصر بمن هم دونها وليس من ينبغي أن نتطلع لأن نكون مثلهم، فكثير من المصريين يرفع شعار "إحنا أحسن من غيرنا" ويقصدون بذلك دولا أخرى محيطة تعاني من قهر أكبر أو عدم استقرار أو احتلال أجنبي. وهذه المقارنة المثبطة تجعلنا قانعين بقسمة الله وما هي بقسمته وإنما هي نتاج تكاسلنا وجهلنا، وكأن الله كتب على الشعوب العربية أن تتبارى في القبح والتسلط والفساد.
4- نظرية شرعية القيادة وتحلل الدولة والتي تؤكد على أن الرئيس مبارك نجح فيما لم ينجح فيه سابقاه وهو عدم ربط اسمه بفضائح مثل نكسة 1967 أو قرارات تتحدى الرأي العام مثل السفر إلى القدس لمخاطبة الكنيست أو حبس الصحفيين والمثقفين من كل الجهات أو حتى سوء إدارة يرتبط به مباشرة، فالقرارات الكبرى، حتى وإن تمت تحت رعايته وتوجيهاته، لكنها في النهاية تنسب إلى مجلس الوزراء. كما أن مصر في عهد الرئيس مبارك لم تعرف نمط المسئول السابق الذي يمكن له أن يكشف عن الخفايا والأسرار، فرئيس الوزراء السابق عادة ما يحصل على منصب سواء في مجلس الشورى أو في إحدى مؤسسات الدولة بما يضمن ولاءه، والوزير السابق عادة ما يحصل على نيشان أو يظل يحتفظ بامتيازات الوزير حتى في مرحلة ما بعد الوزارة. وعلى هذا يظل صندوق الحكم غامضا، وحتى إن وجد خلل، فهو لا ينسب إلى رئيس الجمهورية أو لنظام الحكم وإنما لرئيس الوزراء ومن هم دونه. وبالتالي يكون الحل في حالة وجود مظالم هو مناشدة مؤسسة الرئاسة وليس الخروج عليها. فيتحلل المجتمع وتتفكك الدولة ومع ذلك تظل شعبية الرئيس في غير محل شك.
5- نظرية صعوبة العمل الجماعي ومنطق العائد بلا مجهود: هذه مشكلة شائعة في كل الدول غير الديمقراطية حيث لمقاومة التسلط ثمن قد يكون باهظا. وأفضل تجسيد لهذه المشكلة هو الإجابة على سؤال: من الذي يتبرع بتعليق الجرس في رقبة القط؟ ومن الذي يبدأ العصيان الجماعي؟ وما الذي يضمن له أن يشارك معه آخرون؟ وما الذي يضمن أنه لن يتحمل وحده عواقب التمرد في حين يحصل آخرون على عائد بلا مجهود؟ وهذا هو جوهر نظرية العمل المؤسسي التطوعي سواء في شكل أحزاب أو حركة مثل كفاية بأن تحل مشكلة "من يبدأ" ولكن المعضلة في أن من يبدأ لا بد أن يتحلى بخصائص تجعله ليس فقط "ثائرا" ناجحا وإنما أيضا "بديلا" مقنعا. وهو ما يبدو أن أيا من القيادات الشعبية والحزبية الحالية لم تنجح في تقديمه. وينسب إلى صدام حسين أنه قال إنه كان المثقف الشجاع الوحيد لذا هو الذي فاز بحكم العراق لأن بقية العراقيين كانوا إما مثقفين جبناء أو شجعان جهلاء، أما هو فقد جمع بين ما كان نادرا عند أقرانه.
إذا وضعنا الأسباب الخمسة السابقة جنبا إلى جنب فإننا يمكن أن نفهم ولو جزئيا، لماذا نشتكي ولا نتحرك، لماذا نبكي ولا نشارك.