الاستبداد المستقر

عبد الرحمن يوسف
عبد الرحمن يوسف

آخر تحديث: السبت 23 فبراير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

عَيَّرَنَا الرئيس المخلوع بالاستقرار، وعَيَّرَنَا بالبنية التحتية، وعَيَّرَنَا بالحرية، وعَيَّرَنَا بتحرير سيناء وعودة العلاقات مع العرب والعجم والجن والإنس، وعَيَّرَنَا بالصناعة والزراعة والتجارة والاستيراد والتصدير، وبكل إنجازات عهده الثلاثينى الممتد، ثم قامت ثورة عظيمة اكتشفنا بعدها أنه كان كاذبا فى كل ما عَيَّرَنَا به، فلا نحن فى دولة مستقرة، ولا هو أقام بنية أساسية، ولا هو أعطى للناس حرية من أى نوع، اللهم إلا حرية النباح الفردى بعد التنسيق مع أمن الدولة، والاستثناءات قليلة.

 

مصر تحت حكم مبارك دولة بلا إنجازات، وإنجاز مبارك الوحيد هو البقاء فى الحكم طوال هذه السنين العجاف، لذلك ما زالت مصر تعيش إلى الآن فى هذا الإنجاز الذى يمكن أن نسميه «استقرار الاستبداد».

 

المشكلة التى نعيشها أننا قد وضعنا زيتا مع ماء فى إناء واحد، ونريد خلطهما، وهو أمر يعرف القاصى والدانى استحالته، فقد كتبت الجمعية التأسيسية دستورا يحاول أن يكون عصريا، ويحاول أن يمنح الناس بعض الحريات، ولكنه فى نفس الوقت يعطى سلطات غير معقولة لبعض مؤسسات الدولة، وبشكل يستحيل تطبيقه فى دولة حديثة، فدستور مصر ــ من الناحية الشكلية ــ عصرى، ولكنه يفتح باب المحاكمات العسكرية للمدنيين، وهو دستور عصرى، ولكن من المفروض أن يطبقه جهاز أمنى وآخر إدارى ينتميان لعصور المماليك، وكلاهما لا يعرف ما معنى الدولة الحديثة، ولا يعرف معنى آدمية المواطن أصلا!

 

لكل هذه الأسباب لم نر أثرا لأعظم دساتير الدنيا كما وصفه البعض، فالمحاكمات العسكرية ما زالت ديدن السلطة، واعتقال المصريين وتعذيبهم ما زال نهجا منظما، برغم كل المواد الدستورية التى تتحدث عن حق المواطن فى معرفة سبب اعتقاله قبل مرور أربع وعشرين ساعة.

 

إنها محاولة لخلط الزيت بالماء، وعلاج ذلك لن يكون إلا بأمرين، أولهما تعديل الدستور، وثانيهما إعادة هيكلة أجهزة الأمن، وتطوير الجهاز الإدارى للدولة، وهذه مهمات جسام، لن تتم فى يوم وليلة، ولن يستطيع أن يقوم بها الجيل الذى تربى داخل قوانين هذه البيئة الفاسدة، بل سوف ينجزها جيل مصرى جديد، يملك الوقت، والعزيمة، والخيال، ويملك جرأة وضع يده فى أعشاش الدبابير التى عششت داخل عقول الناس وداخل مؤسسات الدولة لعشرات السنين.

 

إن الدولة المصرية بطبيعة تكوينها لا تقبل الانصياع إلا لديكتاتور، ومن يسيِّرون الأمور اليوم لا يجرؤون على مواجهة هذه الحقيقة، ولا يجرؤون على مواجهة هذه الدولة، بل إن مطامعهم الشخصية ورؤيتهم القاصرة قد بنت لهم أوهاما تصور لهم أنه يمكن أن يصلوا إلى الاستقرار دون أن يتطبعوا بطباع الحاكم المستبد، وهذا كمن يتخيل أنه سوف يضع ماء فى إناء دون أن يأخذ الماء شكل هذا الإناء.

 

كل أمل هذا البلد فى الجيل الجديد، لأنه لن يقبل أن يعيش فى هذا الوهم، ولن يقبل أن يتخيل الاستقرار مع استمرار الظلم، هذا الجيل لن يتواطأ ضد نفسه، ولن يعمل لصالح «الاستبداد المستقر».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved