محنة الثورة المصرية وازدواجية الطبقة الواحدة
جلال أمين
آخر تحديث:
السبت 23 فبراير 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
عندما قامت ثورة 1952 فى مصر، كان المجتمع المصرى مثل معظم البلاد التى كانت تسمى وقتها بـ«البلاد المتخلفة»، يتسم بازدواجية اجتماعية خطيرة: حفنة ضئيلة من الملاك الزراعيين الأثرياء، الذين يقطنون قصورا فخمة فى المدن، ويعيشون مثل أغنياء الدول الثرية أو المتقدمة، يحيط بهم بحر من الفلاحين الفقراء والأميين. نعم كانت هناك طبقة وسطى بين الطبقتين، ولكنها كانت صغيرة يتراوح حجمها بين 10٪ و20٪ من مجموع السكان.
خلال الستين عاما الماضية، شهدت معظم هذه البلاد (التى تسمى الآن بالنامية)، ومنها مصر، نموا كبيرا وسريعا فى الطبقة المتوسطة، فكاد يبلغ حجمها نصف السكان، مما خفف من حدة الازدواجية القديمة، إذ كان نمو الطبقة الوسطى ينطوى على صعود شرائح كبيرة من الطبقة الدنيا إلى أعلى، ونزول نسبة من الطبقة العليا إلى أسفل.
خلال هذا النمو السريع للطبقة الوسطى حدث شىء خطير للغاية، وليس فقط فى مصر، هو ما أريد أن ألفت النظر إليه فى هذا المقال. وأقصد به أن الازدواجية القديمة التى خفت حدتها، بين طبقة عليا وطبقة دنيا، حلت محلها ازدواجية جديدة، ربما كانت أفظع وأقبح، فى داخل هذه الطبقة الوسطى نفسها، وهو ما يمكن تسميته بـ«ازدواجية الطبقة الواحدة».
لقد اتخذ نمو الطبقة الوسطى فى بلادنا مسارا مختلفا جدا عن مسارها فى الدول التى سبقتنا فى التقدم الاقتصادى، وهذا هو ما سبب هذه الظاهرة القبيحة التى أتكلم عنها الآن «ازدواجية الطبقة الواحدة». فمن ناحية كان نمو الطبقة الوسطى عندنا أسرع بكثير مما كان فى البلاد التى سبقتنا. فالذى استغرق فى أوروبا ثلاثة أو أربعة قرون، حدث عندنا فى نصف قرن أو أقل. ومن ناحية أخرى، كانت مسببات نمو الطبقة الوسطى مختلفة أيضا فى الحالين. فبينما كان نمو الطبقة الوسطى فى أوروبا منذ عصر النهضة يرجع إلى عاملين أساسيين: التعليم والتصنيع، كان نمو الطبقة الوسطى عندنا فى الخمسين عاما الأخيرة يحدث فى ظل نمو ضعيف للغاية للصناعة، وانتشار سريع لتعليم بالغ التردى، وفى ظل سيطرة أجنبية، سواء مستندة إلى احتلال عسكرى أو سيطرة اقتصادية وسياسية. فإذا بنمو الطبقة الوسطى عندنا يعتمد أساسا على نمو قطاع الخدمات، بما فى ذلك أعمال الوساطة قليلة الإنتاجية، وزيادة حجم البيروقراطية الحكومية، فضلا عن ارتفاع الدخل بسبب الهجرة إلى الخليج. هكذا نمت الشرائح الجديدة من الطبقة الوسطى، التى تحصل على دخولها دون مساهمة كبيرة فى زيادة الإنتاج، وحققت صعودها بسرعة، وكثيرا ما كان ذلك دون استحقاق أو تضحية حقيقية، بل وكثيرا ما يستند إلى أعمال غير مشروعة أو غير أخلاقية. وانضمت هذه الشرائح الجديدة الصاعدة إلى شرائح الطبقة الوسطى القديمة التى استند صعودها إلى تعليم جيد، ومصادر للدخل مشروعة ومبررة أخلاقيا. أصبحت هاتان الطائفتان، الجديدة والقديمة، جزءين من طبقة واحدة، هى الطبقة الوسطى التى نقابلها الآن فى كل مكان، جنبا إلى جنب، فى الشوارع والجامعات، فى مصالح الحكومة والشركات الخاصة، فى دور العبادة وأماكن الترفيه، فى المسارح وعلى الشواطىء...الخ. يصعب الآن التمييز بينهما بمجرد النظر، إذ يرتدى الجميع الآن نفس الزى، ويستهلكون نفس السلع، واقتنى معظمهم السيارة الخاصة، وأرسلوا أولادهم وبناتهم إلى نفس المدارس والجامعات (بما فى ذلك المدارس والجامعات الخاصة)، وشاهدوا نفس البرامج التليفزيونية...الخ.
كانت نتيجة ذلك الاقتراح بين هذين النوعين من الشرائح الاجتماعية فى طبقة واحدة، مخلوقا بشعا للغاية، وكأننا أمام جسم واحد له رأسان، كل رأس يفكر بطريقة مختلفة عن الطريق التى يفكر بها الرأس الآخر، وإن اشتركا فى جسم واحد، ولكل منهما ذكرياته وطموحاته المختلفة، ومعايير أخلاقية مختلفة أيضا.
نعم كان لدينا ازدواجية أيضا منذ خمسين أو ستين عاما، ولكنها كانت ازدواجية الطبقتين، استقطاب بين الغنى والفقير، بين السيد الاقطاعى وبين الخادم، أو الفلاح الأجير أو المعدم، بين قلة مستغربة (أى تقتبس ما تستهلكه من سلع وأنماط سلوكها من الغرب)، وأغلبيته تعيش وتفكر كما كان يعيش أجدادنا. كل من الطبقتين كانت قانعة بمكانتها فى المجتمع، لا تخشى الطبقة العليا أى خطر من احتمال فقدان هذه المكانة، ولا تحلم الطبقة الدنيا بأى أمل فى الصعود. نعم كان بينهما طبقة وسطى، ولكنها كانت طبقة قانعة أيضا بمنزلتها بين المنزلتين، واثقة بنفسها، تحترمها الطبقتان العليا والدنيا، ولا يعتريها الخوف من النزول إلى أسفل ولا يعذبها الطموح للصعود إلى أعلى.
كان التمييز، فى الازدواجية القديمة، بين الطبقتين العليا والدنيا، واضحا وسهلا للغاية، حتى جغرافيا. إذ كان استقطابهما يكاد يتطابق مع الاستقطاب بين الريف والحضر. أما فى الازدواجية الجديدة فقد اختلط بها الحابل بالنابل، ليس فقط فى الزى وأنماط السلوك، بل وأيضا فى أماكن السكن. فتداخل الريف والحضر، إذ دخلت مظاهر كثيرة من حياة المدن إلى الريف (فدخلت الكهرباء والتليفزيون والغسالة...الخ) وحدث من ناحية أخرى «تزييف للمدينة»، ماديا ومعنويا.
عندما يتداخل الطرفان المتضادان إلى هذه الدرجة وكأنهما متشابهان، وينتميان إلى نفس الطبقة، ما أكثر ما يجب أن تتوقعه من أمثلة التوتر الاجتماعى، ومن تكاثر فرص الخداع والرياء والنفاق، إذ ما أكثر فرص الاحتكاك بين ما يبدوان كمتشابهين، وهما ليس فى الحقيقة كذلك. كان هناك طبعا بعض الاحتكاك فى ظل الازدواجية القديمة أيضا، ولكنه كان فى الأساس احتكاك أسياد بخدم، كل من الفريقين يعرف مقامه (أو قلة مقامه)، أما الآن فالاحتكاك المستمر بين متنافسين، يكره أحدهما الآخر ويريد أن يحل طموحاته وأنماط سلوكه وتفكيره محل طموحات وأنماط سلوك وتفكير الآخر.
فى الازدواجية القديمة لم يكن من الممكن للفلاح أن يمثل دور الاقطاعى (ولا العكس طبعا) أو أن يمثل الأمى دور المتعلم، أما الان فإن من الممكن لحديث الثراء أن يمثل دور الفريق فى الثراء، والذى حصل على دخله بطريق مشروع دور من حصل على دخل مشروع، وأن يمثل نصف المتعلم دور المتعلم بل ودور المثقف، وأن يمثل الفاسق دور المتدين الورع، وأن يمثل الذى لم يعش فى الغرب ولا رآه، دور المستغرب المتفرنج...الخ.
مثل هذا التطور الذى حدث فى المجتمع المصرى (وأظن أن مثله حدث فى بلاد أخرى كثيرة تشبهنا) لا تحدثه ثورة، فهو نتيجة تطورات استمرت عدة عقود، ولكن يمكن أن تكشف عنه ثورة. وثورة 25 يناير 2011 فى مصر قامت بهذا الدور فى كشف الغطاء عما حدث خلال العقود الخمسة أو الستة السابقة. وأنا أميل إلى تفسير الكثير من متاعبنا خلال العامين الماضيين، منذ قيام ثورة يناير، بانكشاف الغطاء عن هذه الازدواجية التى نمت وترعرعت داخل الطبقة الوسطى المصرية، بما فى ذلك تلك الازدواجية الخطيرة بين أنصار التيار الدينى وأنصار التيار المدنى.