كيف علينا أن نتذكر بطرس بطرس غالى؟

كريم ملاك
كريم ملاك

آخر تحديث: الثلاثاء 23 فبراير 2016 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

رحل عنا بطرس بطرس غالى، حفيد بطرس باشا نيروز غالى، رئيس الوزراء من ١٩٠٨ حتى اغتياله فى عام ١٩١٠ على يد إبراهيم ناصف الوردانى. كثيرون يرون أن مسيرة الحفيد توجت جهود وكفاح الجد الذى كان أول رئيس وزراء لمصر مسيحى «إذا استثنينا نوبار باشا». ربما من هنا يأتى الحنين إلى الماضى بدعوة ترسيخ قيم التسامح فى المجتمع الذى سمحت للجد بتولى رئاسة الحكومة. إذا تبنينا هذه وجهة النظر وتذكرنا الجد والحفيد بهذه الأمجاد، نطمس عدة حقائق أخرى مخزية ونتبنى سردية مبنية على الحُطام الكولونيالى فى مصر والعهد الملكى الذى ما زال حاضرا معنا هنا. ليس ذلك فقط بل نطمس إحدى أهم معارك الحفيد بطرس بطرس غالى مع الولايات المتحدة فى قضية البوسنة، الأمر الذى جعله حتى الآن الأمين العام للأمم المتحدة الوحيد الذى لم يتمكن من حسم ولاية ثانية، نتيجة لفيتو أمريكى فى عام ١٩٩٦.

***
فى ظل أحداث محكمة دنشواى التى ترأسها بطرس باشا فى عام ١٩٠٦ صُدم كثيرون من الأحكام التى صدّق عليها بطرس باشا بعد أن بلغه الاحتلال الإنجليزى بهما مسبقا، لم يكن يتوقع الكثيرون أن تصدر المحكمة أحكاما بالإعدام لفلاحى دنشواى الذين كانوا ضحايا جنود إنجليز يصطادون حماما فى قريتهم، سرعان ما تطور الأمر حتى ضرب أحد الجنود الإنجليز إحدى نساء القرية وماتت ثم لاحق فلاحو القرية الجنود حتى سقط ومات أحدهم نتيجة ضربة شمس. مقابل ذلك قام إبراهيم الوردانى، باغتيال بطرس باشا، لتواطؤه مع الإنجليز، وإصدار أحكام ضد أفراد شعبه.

ولم تقف الأزمة هنا، بل امتدت إلى ما جاء عن بطرس باشا فى الذاكرة الكولونيالية، ففى زيارة الرئيس الأسبق للولايات المتحدة ثيودور روزفلت لمصر فى عام ١٩١٠، انتهز فرصة خطابه أمام جامعة فؤاد الأول «جامعة القاهرة اليوم» وفتح سيرة الراحل بطرس باشا. وقال روزفلت فى ٢٨ مارس ١٩١٠، إن «كل الرجال الشرفاء فى سائر الأمم صُدموا غراء اغتيال «بطرس» غالى»، ثم استطرد أن «قضية القاتل لن تتقدم بل قد تعطلت» فى إشارة واضحة للحركة الوطنية فى مصر وصراعها ضد الإنجليز، وأن «لا أحد يستطيع أن يعطى شعبا إمكانية الحكم الذاتى، حتى وإن كان لديها دستور» منوها أن الطريق أمام مصر ما زال طويلا حتى تستقل وتحكم نفسها، وأنه «بدون قيم التسامح...لن يكون هناك نمو وتطور حضارى». ومن هنا نرى كيف يعيش الغرب والاحتلال على التصورات النمطية للعنف والكره بين صفوف المواطنين العرب، وينصحون المصريون بضرورة التحلى بقيم وأخلاق التسامح دون ذكر القضية الوطنية وثمن الاحتلال الذى دفعه فلاحو دنشواى وليس بطرس باشا فقط. تسبب روزفلت فى كثير من الحرج للإنجليز حتى بات الأمر أنه يعطى ذخيرة للحركة الوطنية. ومن هنا تم سد باب علاقة دنشواى ببطرس باشا ولم يعد يتذكر أحدا دوره فى المحكمة حتى سارت هناك سردية كولونيالية تحن للقيم وأخلاق الحكم الملكى التى تبلورت فى سنة ١٩٠٦ عند تولى بطرس باشا «المسيحى» الحكم وتترحم عليه وتلعن وتسب التخلف والتعصب والتفرقة التى تسببت فى قتله، وليس من أجل ضلوعه فى خطط الاستعمار.


***
نرى ذات السردية بنفس الحروف فى كيف تذكر مجتمع مصر بطرس بطرس غالى، ربما يتطرق البعض أن من لا يحتفون بقامة مثل بطرس بطرس غالى، الذى توج بمنصب أمين عام الأمم المتحدة، هم أيضا من المتعصبين والمتخلفين فى زمن قلت فيه الأخلاق وقيم التسامح. لكن حقيقة الأمر مختلفة، فعلينا أن نبحث عن الظروف التى أدت إلى أن ترضى أمريكا بمصر وتعطيها منصبا مثل أمين عام الأمم المتحدة.

فقبل تولى بطرس بطرس غالى وزارة الدولة للشئون الخارجية سبقه إسماعيل فهمى كوزير خارجية، واستقال اعتراضا على زيارة السادات لإسرائيل عام ١٩٧٧، ثم تعيين بطرس بطرس غالى وزير الدولة للشئون الخارجية ببضعة أيام قبل ذهاب السادات لإسرائيل، أما من تولى وزارة الخارجية بعد إسماعيل فهمى فكان محمد إبراهيم كامل، ولكن الصدمة جاءت عندما اختار السادات بطرس بطرس غالى من ضمن وفد مفاوضات كامب ديفيد. بعد رضوخ السادات لأغلب مطالب جيمى كارتر، استقال محمد كامل أثناء المفاوضات، وصار سبب تمسك السادات ببطرس بطرس غالى معلوم، ولهذا السبب خصيصا كانت أقوى رسالة لإسماعيل فهمى ومحمد إبراهيم كامل هو تولى بطرس بطرس غالى منصب أمين عام الأمم المتحدة فى رسالة من العيار الثقيل: اعتراض تُمحى من التاريخ.

تحققت مضمون هذه الرسالة عندما اكتشف بطرس بطرس غالى سيطرة أمريكا على الأمم المتحدة فى التعيينات للموظفين ورؤساء هيئات الأمم المتحدة، الأمر الذى أدى إلى صدام فى قضية البوسنة فى يوغوسلافيا فى عام ١٩٩٥، عندما تم قتل المسلمين البوسنيين نتيجة ضعف وتواطؤ قوات حفظ السلام ووقوفهم مكتوفى الأيدى أمام اجتياح كامل للمنطقة الآمنة للبوسنيين المسلمين، الأمر الذى سُمح بالإفصاح عنه فى تقرير مؤلم للجنة تقصى الحقائق تابعة للأمم المتحدة بعد المذبحة بأربعة أعوام وأصبح من أكبر فضائح الأمم المتحدة. فعند اعتراض بطرس بطرس غالى على ضغوط أمريكا بإرسال قوات حفظ السلام رمزية ودون قواعد اشتباك تعطيهم حق التدخل لحماية المدنيين، أصبح معلوما أن الأمم المتحدة لن تجدى بشىء فى أزمة يوغوسلافيا. فمن هنا قررت أمريكا التخلى عن بطرس بطرس غالى الذى تخطى حدود صفقة كامب ديفيد التى بموجبها حازت مصر على عدة من الغنائم أبرزهما الحصول على أول عربى يتبوأ منصب أمين عام الأمم المتحدة. فبعد عدة تحركات دبلوماسية أمريكية لم يحصل بطرس بطرس غالى على ولاية ثانية كرئيس للأمم المتحدة لتتوج مصر أيضا بأوائل الأشياء ويصير أول أمين عام للأمم المتحدة، وحتى الآن الوحيد، الذى لم تجدد الثقة فيه لفترة ثانية لرئاسة الأمم المتحدة. ربما من أكبر المفارقات هو الاحتفاء ببطرس بطرس غالى كقامة عالمية فى الأمم المتحدة دون التذكير بصراعه مع أمريكا، الأمر الذى أحرج مصر بعد التمهيد لحصولها على منصب الأمين العام ثم سحبه بعدها.

***
إذا كيف نتذكر بطرس بطرس غالى وجده بطرس نيروز باشا؟ هل نتذكر بطرس باشا على أنه أيضا قامة من حكماء مصر ضاع عن عالمنا نتيجة رصاصة الغدر والتعصب مثلما مهد روزفلت فى خطابه أمام جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)؟ أم نتذكر مذبحة دنشواى وكيف صار أول رئيس وزراء مصرى مسيحى أداة للإنجليز أيضا؟ وهل تتعطل هذه الذاكرة أمام دعاة الأخلاق والتسامح والأخوة الذين ينددون بمن لا يتذكرون محاسن المسيحيين أبدا نتيجة لكرهه لهم؟ فحين أخفق الجد واكتفت الذاكرة الكولونيالية بالمديح برئيس الوزراء القبطى، سقط أيضا الحفيد وأراد أن يكون أداة للسادات حتى يكون «وطنى» و«يخدم بلده» وهذا دليل أيضا على توظيف الدولة للأقباط الذين يريدون أن يدحضوا ذلك الاتهام بالتبعية للغرب رغم أن أكثر من كان يتبنى نهج أمريكا فى مفاوضات كامب ديفيد كان الرئيس «المؤمن» الخلوق أنور السادات، بدليل استقالة وزيرين مسلمين.

ولكن حين قرر بطرس بطرس غالى ألا يستمر فى جلباب أمريكا تم تجريده من منصبه، ولعل هذا هو الدرس: إن مثلما علينا أن نتذكر البُعد الاستعمارى لتأجيل قضية الاستقلال من خلال طرح قضية «التقدم الحضارى» وضرورة وجود القيم و«الأخلاق» و«التسامح» لاحتضان المسيحيين على أنه دليل لاستعداد مصر للحكم الذاتى، فعلينا أيضا أن نتذكر عندما وقف المسيحيون أمام المزاعم الإمبراطورية الأمريكية وكيف تسبب ذلك فى خسارة لبطرس بطرس غالى. فإذا نسينا فصل أمريكا مع بطرس بطرس غالى نقع فى ذات الفخ للذاكرة الكولونيالية التى تعيش على سرد وتصوير أزمة مصر على أنها أزمة أخلاق وأزمة تعصب ليس قضية استقلال، الأمر الذى يصعب توظيفه فلا نرى أحد يقول إنه من الغير أخلاقى أن ننسى صراع بطرس بطرس غالى، أول عربى و«مسيحى» يحظى بمنصب أمين عام الأمم المتحدة، مع أمريكا فى سعيه للحفاظ وإنقاذ أرواح مسلمى البوسنة فى التسعينيات فى وقت لم نرَ الأنظمة العربية تتحرك فى هذا الاتجاه ولم تجرأ أن تتخطى حدود سياستها الخارجية المرسومة من قبل أمريكا.

طالب دراسات الشرق الأوسط فى جامعة كولومبيا

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved