وأخيرا، ها أن مؤسسة القمة العربية تجتمع. وهو اجتماع كان من المفروض أن يكون العشرين أو أكثر لمناقشة تداعيات وتعقيدات ومتاهات ومآسى حراكات وثورات السنوات الست الماضية.
أما وأن وتيرة واهتمامات مؤتمرات القمة قد ظلت على حالها، وغلب التفرج على الفعل، وظلت الحرائق تشتعل دون استدعاء واستعمال وسائل إطفائها، فإن ذلك كله يستدعى طرح التساؤلات الصادقة الصعبة المؤلمة بشأن انعقاد الاجتماع الأخير.
أول هذه التساؤلات يتعلق بمواضيع جدول الأعمال. أى المواضيع تستحق أن تناقش وأيها توجد إمكانية لمناقشته؟ حاولت بكل ما أوتيت من عقل وخيال وروح متفائلة الوصول إلى أجوبة مقنعة، فلم أوفق.
***
سألت، هل يمكن تحقق التداول المعقول بشأن قضية القضايا وأطولها عمرا، قضية فلسطين العربية، بين، من جهة، من يسيرون بسرعة البرق نحو التطبيع السياسى والاقتصادى والثقافى والإعلامى مع العدو الصهيونى المحتل، بين من ينسقون ليل نهار مع أجهزة الاستخبارات الصهيونية، بين من يتحدث العالم عن توجههم نحو استراتيجية مشتركة واحدة، بنظرة واحدة متناغمة متعاونة بشأن كل ما يجرى فى فلسطين والأرض العربية وإقليم الشرق الأوسط والساحات الدولية، وبين، من جهة أخرى، من لازال لديهم ولو قليل من الالتزام تجاه إخوة عرب مشردين معذبين، ومن الممانعة والرفض لاغتصاب فلسطين العربية وتهويدها وإخراج من بقى من أهلها، بل والهيمنة على إرادة ومستقبل كل الأجيال العربية القادمة؟
كان الجواب صادما، إذ ستكون تلك مداولات الطرشان وثرثرة الكلام الذى لا يجدى ولا يفعل فى الواقع.
سألت، هل يمكن إجراء مداولات بشأن الأقطار العربية التى تواجه جحيم الحروب والصراعات المسلحة، أو مآسى الإرهاب التكفيرى المجنون الممارس والاغتصاب والنهب وتدمير الثقافة والحضارة بمباركة ودعم وتسليح من خارج الأرض العربية وداخلها، أو غطرسة الاستبداد الأنانى الذى لا يريد دخول العصر ومتطلباته الحقوقية؟ هل يمكن إجراء تلك المداولات بين فرقاء، بعضهم ضالع فى تلك الحروب والمآسى بالمال والعتاد، وبعضهم واقف على الحياد بعجز وقلة حيلة، وبعضهم رافض ولكن بممارسة واضحة لمبدأ التقية خوفا وهلعا من أن يصيبه رذاذ الأمواج الهائجة فى محيطات بلاد العرب؟
كان الجواب مفجعا، إذ لن تجرى مداولات تخرج أى قطر عربى من محنته، وعلى الأغلب ستكون هناك مجاملات وتمنيات وأقنعة.
سألت، هل يمكن إجراء مناقشات بشأن حرائق الانقسامات والصراعات والتراشقات البذيئة الطائفية فيما بين أتباع السنة السنية وأتباع السنة الشيعية، إذا كان هناك من يسمح لوسائله الإعلامية بإحياء الفتن الكبرى التاريخية، وإذا كان هناك من يعتقد بأن التحالف مع الصهيونية سيرجح كفة ميزانه، وإذا كان المحايدون يجهلون بأن أصول ومناهج التراث السنى تنسحب على مقابله الشيعى، وبالتالى فإن الموضوع برمته مطبوخ فى قدر السياسة؟
ومرة أخرى كان الجواب بأن الخروج من عفن الطائفية لن تحسمه مثل تلك المداولات فى مثل تلك الظروف التى نعيشها.
سألت، وإذن فماذا عن الاقتصاد؟ جاء الجواب بأننا لا نحتاج إلى مداولات جديدة. كل ما نحتاجه هو أن نقرأ مقررات قمة عمان الاقتصادية فى بداية الثمانينيات من القرن الماضى ونطبق نصف ما جاء فيها، بعد أن مر أكثر من ثلث قرن وتلك القرارات لازالت نائمة فى الأدراج. سألت، وماذا عن التعليم والصحة والثقافة والإعلام؟ كان الجواب بأن الطموحات التعاضدية والوحدوية فى تلك الحقول هى فى يد الوزراء المختصين إذا توافرت الإرادة وقوى الالتزام العروبى وقل السهاد.
***
لم أطرح سؤالا بشأن العلاقات العربية مع الخارج، إذ لم تعد هناك علاقات للتداول بشأنها، وإذ لم تعد هناك موازين العروبة والتناغم القومى والأخوة الإسلامية، بل وحتى حق الجار والإحسان إليه. فكل العلاقات أصبحت تبعية بهذا الشكل أو ذاك.
كل مؤسسات الدنيا تحتاج إلى تعاون مكوناتها وإلى إعلاء المشترك حتى تنجح وتكون مفيدة.
الأمر نفسه ينطبق على مؤسسة القمة العربية التى من الأفضل لها أن تركز على وضع الضوابط والموازين والمحددات لمسألتى التعاون والمشترك، وإلا فإن اجتماعاتها لن تقود إلى مداولات مجدية بشأن أى من المواضيع التى ذكرنا بعضا منها.
لعل الخطوة الأولى، ويا حسرتاه، هى الرجوع إلى المربع الأول، إلى إصلاح الجامعة العربية التى أنهكتها وأضعفتها إحن ومحن وجنون وبلادات السنين الأخيرة من مسيرتها، ولا نبالغ إذا قلنا إنها تقترب من الدُمار والموت.
أما أدوار المجتمعات والجماعات العربية المتثائبة المسترخية فإنها حكايات تحتاج إلى مجلدات بعناوين لا تعد ولا تحصى.
الواقع يقول بأن الحاضر هو ما تستطيعه القمة، أما ما تستطيعه المجتمعات فهو المستقبل. وإنا لمنتظرون.