الجيوش والدساتير: نماذج من الخارج
سيد قاسم المصري
آخر تحديث:
الأحد 24 فبراير 2019 - 11:33 ص
بتوقيت القاهرة
كنت فى بولندا فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى وزيرا مفوضا بالسفارة المصرية فى وارسو عندما اندلعت ثورة «التضامن» فى خريف عام 1980 بقيادة فاونزا العامل الكهربائى بالترسانة البحرية تطالب بالخبز والحرية وما تلى ذلك من اضطرابات وإضرابات عمالية شلت عجلة الاقتصاد واختفت السلع من الأسواق وشح الوقود واضطرب الأمن وبلغ قلق السوفييت مداه واجتمع حلف وارسو وطالب الجيش البولندى بالتدخل إلا أن الجيش رفض ذلك وقال الجنرال ياروزلسكى قولته المشهورة «إن الجندى البولندى لن يرفع السلاح فى مواجهة المواطن البولندى».
إلا أنه فى شتاء عام 1983 قاد الجنرال ياروزلسكى نفسه انقلابا عسكريا عطل فيه الدستور وفرض الأحكام العرفية والرقابة على كل شىء بما فيها المكالمات التليفونية.. ولكن الجديد فى هذا الانقلاب أن قائده الجنرال ياروزلسكى سارع بالاعتذار للشعب قائلا: «إن القوات السوفييتية تحت مظلة حلف وارسو كانت تحتشد على الحدود وأنه اضطر لاتخاذ هذه الخطوة منعا للغزو السوفييتى».
وبالفعل كان الغزو السوفييتى وشيكا ولم يكن ذلك مستغربا فقد أخمد الجيش السوفييتى ثورتين فى المجر المجاورة فى عامى 1956 و1968.
ولكن ياروزلسكى كان آخر رئيس لجمهورية بولندا الشيوعية حيث ظل فى الحكم حتى انهيار سور برلين وسقوط الشيوعية فى أنحاء أوروبا الشرقية، فقام بالإشراف على عملية سياسية وانتخابات ديمقراطية متعددة الأحزاب أدت إلى نجاح حزب الثورة وقام الجنرال بتسليم مقعد الرئاسة إلى ليخ فاونزا زعيم الثورة.
***
وفى إندونيسيا.. التى خدمت بها سفيرا فى أوائل التسعينيات كان الهاجس الذى لا يزال يسيطر على الجنرال سوهارتو والقيادات العسكرية هو الخطر الشيوعى فقد خاض سوهارتو غمار الحرب الضروس ضد الانقلاب الشيوعى عام 1965 على الرئيس سوكارنو مؤسس دولة إندونيسيا الحديثة ( وإن كانت بعض المصادر تتهمه بالضلوع فى هذا الانقلاب) والذى تلته مجازر فظيعة وحملات «تطهير» ضد الشيوعيين والأقلية الصينية وراح ضحيتها ما لا يقل عن المليون شخص فى أقل التقديرات، ومنذ ذلك الحين ظل هاجس الخطر الشيوعى قائما حتى بعد انهيار الشيوعية فى معظم دول العالم.
وكان من نتيجة ذلك انقضاء حقبة سوكارنو وتولى العسكريون الحكم بقيادة سوهارتو وتقنين وضعهم فى الدستور الذى نص على تخصيص مقاعد فى البرلمان لفروع القوات المسلحة الثلاثة بموجب نظام جديد عُرف باسم «المهمة المزدوجة» للقوات المسلحة Dual Function وتم تقنين هذا الوضع فى الدستور، والمهمة الأولى هى المهمة الطبيعية وهى الدفاع عن الوطن، أما المهمة الثانية فهى مهمة الإشراف والتحكيم Arbiter and Overseer وهذه المادة هى التى أعطت القوات المسلحة الحق فى التدخل فى الشئون السياسية بشكل رسمى.
كما تم من الناحية العملية إلغاء الأحزاب من خلال تجميع ما تبقى منها فى حزب واحد موال للحكم الجديد هو حزب الجولكار.. حيث إن التطهير لم يقضِ على الشيوعيين فقط بل شمل أيضا الليبراليين والديمقراطيين، ما أفسح المجال لظهور الإسلام السياسى، وقد ظل سوهارتو ونظامه الجديد فى الحكم إلى أن اضطر إلى الاستقالة على أثر اندلاع الانتفاضة الشعبية فى منتصف عام 1998 التى مهدت لبدء الحقبة الديمقراطية الحالية.
***
والنموذج الثالث الذى يحضرنى هو نموذج تركيا التى نص دستورها عام 1961 الذى وضع بعد الانقلاب العسكرى عام 1960 على إنشاء مجلس للأمن القومى غالبيته من العسكريين وأوكلت إليه مهام إشرافية أدت فى النهاية إلى أن يصبح هو السلطة الفعلية فى البلاد لعقود طويلة، فقد أطاح بالكثير من الحكومات المنتخبة، ورسخ هذا الوضع ثقافة الانقلابات العسكرية التى توالت فى البداية ثم بعد ذلك لم يعد هناك حاجة إلى إجراء انقلاب لتغيير الحكومات.. يكفى توجيه إنذار Coups Ultimatums إلى رئيس الحكومة مثل ما حدث مع سليمان ديميريل أو أن يطلب إلى رئيس الحكومة تقديم استقالته مثل ما حدث مع نجم الدين أربكان.
***
هذه نماذج ثلاثة لانغماس الجيوش الوطنية فى السياسة الداخلية، ولنرى ماذا كان أثر ذلك على مكانة الجيش فى الوجدان الشعبى لهذه الدول:
ففى بولندا.. ظل الجيش الوطنى منصهرا مع الشعب فى مواجهة المآسى التاريخية التى مرت بها بولندا حتى إنها اختفت مرتين من الوجود وتحولت فى إحداها إلى مجرد إمارة حول العاصمة وارسو وذلك نتيجة لاجتياحات جارتيها الكبيرتين.. روسيا من الشرق وألمانيا من الغرب.. وأطماعها فى الأراضى البولندية.
لذا فالشعب البولندى يرفع جيشه الوطنى مكانا عليا وتقبل تدخله العسكرى عام 1983 درءا للاجتياح السوفييتى ولم ينس له أنه لم يطلق رصاصة واحدة على مواطن بولندى.
بينما فى إندونيسيا.. لم تكن رصاصة واحدة بل ملايين الملايين من الرصاص المنهمر فى عمليات وصفت بالمجازر وفى بعض الأحيان بجرائم الإبادة.
وفى تركيا.. فقد الجيش الكثير من المكانة التى تمتع بها منذ حرب التحرير التى قادها كمال أتاتورك واستعاد من خلالها وحدة أراضى الدولة وأعاد الأمن والاستقرار وأنهى حكم الخلفاء العثمانيين وأنشأ جمهورية تركيا الحديثة.. وقد بلغت مكانته حد التقديس.. إلا أن ما قام به العسكريون منذ حقبة الستينيات حتى التسعينيات.. أخذ الكثير من هذه المكانة ما سمح لأردوغان بتعديل الدستور وإنهاء الأوضاع القديمة للقوات المسلحة.
مساعد وزير الخارجية السابق