أزمة سوق السيارات المصرى: جشع التجار أم إخفاق الصُناع؟!
محمد يوسف
آخر تحديث:
السبت 23 فبراير 2019 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
حاولت كثيرا تجاهل ما يحدث منذ عدة أسابيع فى سوق السيارات المصرى، والامتناع عن الكتابة حول الأزمة المشتعلة بين تجار ووكلاء ومستوردى السيارات من جهة، وبين المشترين من جهة أخرى. وسبب تجاهلى لهذه الأزمة راجع لكون طريقة التناول الإعلامى لها قد حصرتها فى أحد جوانبها الضيقة، باعتبارها مجرد أزمة تسعير، أو قُل أزمة جشع تجارى. ولكن يبدو أن تلك الأزمة أصبحت الآن أكبر مما يمكن تجاهله؛ وباتت فى حاجة لتحليل مُنضبط لجوانبها المختلفة، مع التحديد السليم لمسبباتها، ومحاولة استنباط أنسب الطرق لمواجهتها.
***
لا أبالغ حين أقول إن هناك علاقة وطيدة بين امتلاك دولة ما لسيارة وطنية وبين مستوى التقدم الاقتصادى الذى أحرزته. آية ذلك أنه بينما تنتشر السيارات بكثافة فى جميع أرجاء العالم، وبينما ينمو الطلب عليها باضطراد فى أسواق دول العالم المختلفة؛ إلا أن قلة قليلة فقط من هذه الدول هى التى تستطيع تصنيع سيارات وطنية، وهى نفسها القلة التى ننعتها بالمتقدمة.
ولقد انعكست قدرة الدول المتقدمة على تصنيع سيارة وطنية فى قدرتها التنافسية فى فتح الأسواق الخارجية، وفى قدرتها على ضبط أسواقها الداخلية. ففى الدول التى تمتلك قاعدة صناعية لإنتاج سيارات وطنية متطورة، لا تحتاج السياسة الاقتصادية لفرض جبال شاهقة من الضرائب الجمركية على استيراد السيارات، لأن المُصنع المحلى كفء وقادر على منافسة السيارات المستوردة؛ وفى ذات الوقت، لا يستطيع هذا المُصنع المحلى الاستئثار بالسوق والتلاعب والمبالغة فى أسعار السيارات؛ لأن السوق شبه مفتوحة أمام الاستيراد، ولأنه لا يستطيع تجاوز الرقابة الحكومية. وبهذه الطريقة، تستقر أحوال سوق السيارات فى الدول المتقدمة، ولا يعانى المستهلك المحلى من المغالاة فى أسعار السيارات، أو من رداءة المعروض منها.
وما ينطبق على أسواق السيارات فى الدول المتقدمة ينطبق مثله على أسواق السيارات فى الدول النامية صاحبة الفوائض المالية (كحالة الدول النفطية). فرغم أن هذه الدول لا تمتلك سيارة وطنية لتُعينها على المنافسة، فإن فوائضها المالية تُغنيها عن إحداث تشوهات متعمدة فى سوق السيارات. فلا هى تُخطط بفاعلية لامتلاك سيارة وطنية، فتُضيق على المستورد تجارته؛ ولا هى بحاجة ملحة للضرائب الجمركية على استيراد السيارات، فترفع على المستهلك فاتورته. ولذلك، ستجد أسعار السيارات بهذه الدول متقاربة ــ إلى حد كبير ــ مع أسعار السيارات فى الدول المتقدمة، وستجد أسواق السيارات فيها تتسم بالاستقرار.
ولكن على الشاطئ المقابل فى محيط العالم النامى، تقف أغلب الدول المدينة متفردة بسوق سيارات يعج بالتشوهات الهيكلية. فنتيجة لتطلعاتها التنموية فى العقود الستة المنصرمة، ولرغبتها فى امتلاك سيارة وطنية، حاولت حماية وتشجيع الصناعة المحلية، حتى ولو كانت مجرد صناعة تجميع خفيفة، أملا فى تحولها لصناعة وطنية خالصة. ورغم تبدد هذا الأمل مع مرور السنوات، ما زالت لديها بعض السياسات الحمائية لأنشطة تجميع السيارات. وإذا كان أثر هذه السياسات الحمائية كبير على زيادة أسعار السيارات فى السوق المحلية، إلا أنه يفسر فقط جزءا من مشكلة التشوه فى هذه السوق. أما الجزء الآخر من المشكلة تفسره تفشى ظاهرة الاحتكارات فى أسواقها عموما، ومن بينها سوق السيارات.
***
ولا تختلف الأزمة الراهنة فى سوق السيارات المصرية عن هذا السياق؛ بل إنها تعتبر دليلا واضحا على صحة ما أقول. فمنذ عقود خلت، حملت أسعار السيارات فى السوق المصرية آثار الضرائب الجمركية، وعكست المغالاة السعرية من جانب التجار والمستوردين. على أن السؤال الذى يحتاج الآن لإجابة هو: إذا كانت مشكلة سوق السيارات المصرية قديمة قدم دخول مصر عالم السيارات، فلماذا طفت هذه المشكلة على السطح الآن، وللدرجة التى صارت تشكل أزمة تمسك بخناق السوق؟!
هناك سببان لنشوء هذه الأزمة؛ أحدهما خارجى والآخر داخلى. فلقد ساهمت ثورة الإنترنت فى زيادة وعى المستهلك المصرى بأحوال الأسواق الخارجية، ومكنته من عقد مقارنات دقيقة بين مستويات الأسعار الداخلية والخارجية، وكشفت له عن الفجوة السعرية الكبيرة بين أسعار السيارات داخليا وخارجيا. غير أن انخفاض مستوى الشفافية لم يكن ليسعفه ليعرف من المسئول عن اتساع هذه الفجوة؛ أهى الضرائب الجمركية؟ أم هو جشع التجار؟ أم كلاهما؟ لكن الأمور تنقلب رأسا على عقب بالإعلان عن التحرير الكامل لتجارة استيراد السيارات من السوق الأوروبية فى مطلع العام الحالى، تنفيذا لبنود اتفاقية الشراكة المصرية الأوروبية. فهنا أصبح ظهر تاجر السيارات المصرى مكشوفا أمام المستهلك، وبات يتحمل منفردا مسئولية ارتفاع الأسعار المحلية، ووقف وحيدا فى مواجهة جماهير المستهلكين الغفيرة، بما تملكه من منصات للتواصل الإلكترونى الفعال.
وكان من الطبيعى، والحال هذه، أن تخرج دعوات لمقاطعة شراء السيارات فى السوق المصرية، وأن تجد صدى واسعا بين المستهلكين فى السوق. فطالما التجار من الجشع لدرجة أنهم يقبلون برفع أرباحهم المرتفعة أساسا؛ فليتحد المستهلكون إذن، وليُلقنوا هؤلاء التجار درسا لا ينسونه، حتى يعودوا لرشدهم كباقى أقرانهم فى الدول المتقدمة والدول النفطية المجاورة. وفى المقابل، كان من الطبيعى أيضا أن تُجاهد روابط التجار فى الدفاع عن سلامة موقفهم، وفى التأكيد على أنهم لا يتحلون بالجشع، وأن تدهور سعر صرف الجنيه هو المتهم الحقيقى فى هذا التضخم فى أسعار السيارات. وبين طرفى النقيض هذين، ألا يعتبر جشع التجار هو السبب الحقيقى فى هذه الأزمة؟!
***
إن البعض قد يسلم بأن جشع التجار هو المشكلة، وأن التصدى لهذا الجشع هو الحل. غير أنى أرى الموضوع بمنظور مختلف. ففى اعتقادى أن التجار فى جميع بقاع العالم يتملكهم الجشع؛ لكن فى الدول الصناعية يتحطم هذا الجشع على صخرة التقدم الصناعى، ويتبدد أمام الرقابة الحكومية الصارمة على الأسواق. فالأزمة الحقيقية إذن تكمُن فى انخفاض مستوى الاقتدار الصناعى المصرى، وفى رداءة السياسات الجمركية التى حاولت تعزيزه، وفى تراجع الدور الرقابى للحكومة على الأسواق. أما جشع التجار فهو يفسر الجزء السهل من هذه الأزمة.
فلو كانت السياسات الجمركية مُصاغة بطريقة تنموية سليمة؛ ولو استغل الصانع المصرى الحوافز التى مُنحت له على مدى عقود عديدة مضت؛ ولو ارتقى صُعدا فى زيادة حصة المكون المحلى فى صناعته، لزادت وتطورت قدرات الإنتاج الصناعى الوطنى، ولما استطاع التجار والوكلاء والمستوردون ممارسة كل هذا الجشع التجارى على المستهلكين، ولما صعُبت عملية الرقابة الحكومية على حركة الأسواق. قل ذلك على سوق السيارات، وقله أيضا على باقى الأسواق المصرية التى تعج بالواردات من كل حدبٍ وصوب.
ومما هو جدير بالتأمل، أن صناعة السيارات المصرية لم تتطور وهى تتمتع بجدار سميك من الحماية الجمركية، واقتصرت على أنشطة التجميع متهافت المكون المحلى الحقيقى (لاحظ أن منهجية الجهاز الجمركى فى حساب نسبة المكون المحلى عليها العديد من التحفظات)؛ فكيف سيصبح حالها إذن بعدما سُحِب من بين أيدينا سلاح الحماية الجمركية، ونزلت معدلات الضرائب الجمركية على السيارات أوروبية المنشأ إلى مستوى الصفر؟!
***
يقودنا السؤال السابق للتفكر فى نتائج ومآلات الأزمة الراهنة فى سوق السيارات المصرية، وفى البحث الجاد عن حلول تنمى قدراتنا الصناعية من جانب، وتراعى حقوق المستهلكين من جانب آخر.
ولأنى دائما أقف مدافعا عن حقوق المستهلكين، ليس لكونى أحدهم فقط، ولكن لأن سيادة المستهلك تمثل هدفا مهما من أهداف التنمية الاقتصادية؛ فإننى لا أحملهم عبء الخروج من الأزمة. إذ لا مخرج فى اعتقادى من هذه الأزمة إلا بتفعيل الدور التنظيمى والرقابى للحكومة. والدور التنظيمى الذى أقترحه يقف على قدمين: الأولى هى التحول العاجل من تقديم جميع أشكال الدعم والحماية لصناعة تجميع السيارات، والتى ثبت بالتطبيق العملى ضعف جدواها الاقتصادية، لصالح دعم وتشجيع وتوطين صناعة قطع الغيار. ولا أقصد بقطع الغيار صناعة الزجاج والإطارات فقط، بل ما أقصده يشمل جميع أنواع قطع الغيار التى تتزاحم على أرفف محال المستوردين.
أما القدم الثانية للدور التنظيمى المقترح للحكومة، فأعنى بها إعادة النظر بجدية فى أصول النظام الضريبى الذى يساوى خطأ بين أنشطة الاستيراد والتوكيلات التجارية، وبين أنشطة التصنيع التنموى، ولا أقول أنشطة التجميع. ففى ظل هذه المساواة غير العادلة، ستتفوق دائما أنشطة الاستيراد والتجميع على أنشطة التصنيع عالى القيمة المضافة، وبما يجعل للمستورد والتاجر اليد الطولى فى سوق السيارات المصرية.
وعلى صعيد الدور الرقابى للحكومة على سوق السيارات، ولأن الجهاز الضريبى قادر على الكشف عن هوامش الربحية من بيع السيارات فى ميزانيات التجار والوكلاء والمستوردين (يمثل هذا الهامش الفرق بين تكلفة شراء السيارة وبين سعر بيعها للمستهلك النهائي)، فيمكنه بسهولة محاصرة أى جشع يمكن لهم أن يبدوه أو يتسلطوا به على المستهلكين.
وبتكامل الدورين التنظيمى والرقابى المقترحين للحكومة، يمكن لسوق السيارات المصرية أن يتجاوز هذه الأزمة، وأن يعود له الاستقرار تدريجيا، دون الإجحاف بحقوق طرف لمصلحة آخر. أما ما يقترحه البعض من إمكانية تأسيس شركة وطنية لتجارة السيارات يكون هدفها محاربة جشع التجار، فهو اقتراح يسقط أمام ضوابط الاستيراد التى تضعها لنفسها الشركات العالمية المُصنعة للسيارات. فعمليا، لن تستطيع تلك الشركة الجمع بين توكيلين لشركتين متنافستين لإنتاج السيارات.
***
لعل قارئا نبيها يتساءل الآن عن ماهية العلاقة بين توصيتى بدعم أنشطة إنتاج قطع غيار السيارات محليا، وبين الأزمة المشتعلة حاليا حول تسعير السيارات. وللإجابة عن هذا السؤال أقول: إنه لكى تُثمر شجرة المقاطعة الحالية لشراء السيارات المستوردة، يجب أن يتزامن معها تعديل جوهرى فى استراتيجية توطين صناعة السيارات محليا، والتى رأينا أنها مسئولة عن حدوث هذه الأزمة. ولما كان تصنيع سيارة مصرية خالصة بات هدفا عزيزا على إمكاناتنا التكنولوجية الحالية، فإن السعى الحثيث لتصنيع قطع غيار السيارات محليا يمكنه أن يُخفض من الفاتورة الكلية لاقتناء السيارات، والتى يدفعها الاقتصاد من موارده الدولارية الشحيحة، وبما ينعكس بطريقة غير مباشرة على انخفاض قيمة السيارات المستوردة مقومة بالجنيه. ولذلك، أقول دائما: فلنكتفِ باستيراد السيارة، ولنُصنع قطع غيارها!
خبير اقتصادي