القمة العربية بالدوحة.. محاولة للفهم


علاء عبدالعزيز

آخر تحديث: الإثنين 23 مارس 2009 - 7:26 م بتوقيت القاهرة

 (1)

تخيل أنك دعيت لحضور إحدى قمم الاتحاد الأوروبى، وعندما ولجت القاعة الأنيقة وجدتها مقسمة إلى سبعة وعشرين قسما، لكل دولة عضو عدد معلوم من المقاعد خلف لافتة باسم البلد.

المفاجأة أنه حين حانت ساعة دخول الوفود إلى قاعة الاجتماعات دخل رئيس الوزراء اليابانى ومعاونوه واعتلوا مقاعد الوفد السويدى، ثم دخل الصينيون واحتلوا المكان المخصص لفرنسا، أما الهنود فأخذوا أماكن الإنجليز، والبرازيليون والشيلانيون حلوا محل الايطاليين والإسبان، فى حين ارتكن الروس إلى مقاعد الألمان..

وهكذا إلى أن امتلأت القاعة برؤساء حكومات وقادة دول ليس من بينهم من يمثل أى دولة عضو بالاتحاد الأوروبى.

قد يكون الأمر مسليا لأول وهلة، خاصة لمن لم يتعرض لهذا المستوى من الهزل من قبل، على أن سخف المشهد سرعان ما سيتبدى عندما يبدأ هؤلاء القادة فى التعبير عن مواقف وسياسات مفارقة بل وأحيانا مناقضة لآراء معروفة لشعوب البلدان التى يجلسون خلف أسمائها.

استحضر هذا الهزل السخيف وأنت تتابع أيا من مؤتمرات القمم العربية، (وأحدثها قمة الدوحة) وحاول أن تستكشف مسألة واحدة: هل حقا يمثل كل جالس (وربما الأصح أن نقول جاثم) وراء لافتة كل دولة أمانى وطموحات السواد الأعظم من أبنائها؟

سيقول لك الراسخون فى العلم: ما هكذا تورد الإبل، فمن ناحية أولى، لا يجوز للحاكم أن ينساق وراء شارع تحركه عواطف جياشة وحنين لماض غابر وأحلام لا تستند إلى الواقع، وأن ذاك هو منشأ الحكمة العربية المأثورة: «للشعوب خياراتها وللحكومات ضروراتها»، ومنطق الضرورة هذا يفرض على كل حاكم عاقل أن يؤسس مواقفه ويبنى خياراته على أساس حسابات واقعية لموازين القوة والضعف والمصلحة إقليميا ودوليا حتى وإن تباينت تلك الحسابات مع أهواء الشارع المتقلبة.

ومن ناحية أخرى ــ هكذا يستطردون ــ فإن أحدث اقترابات البحث فى العلاقات الدولية يشير إلى أن مواقف الدول فى التجمعات الدولية لا تتعلق بمواقف شعوبها بقدر ارتباطها بتوازنات دولية ظرفية تتصل بالقضية محل النظر.

من هنا فإن دولة أوروبية ما قد تتخذ من المواقف ما يتطابق بشكل كامل مع مواقف دولة أوروبية أخرى لدى مناقشة موازنة الاتحاد، ثم تتنافر مواقف البلدين ذاتهما كليا عند التعرض لمسألة اختيار الدول الأوروبية التى تستحق حيازة مقاعد دائمة بمجلس الأمن لدى توسعة عضويته، هذا التغير من النقيض إلى النقيض لا يعكس على أى وجه تغيرا جذريا فى موقفى شعبى البلدين تجاه بعضهما البعض، وإنما يعكس اختيارا رشيدا من صانعى القرار فى هاتين الدولتين لمحل المصلحة الوطنية فى كل قضية..

بعبارة أخرى فإن السلطة التنفيذية ــ وفقا لهذا الرأى ــ تلعب فى الساحة الدولية دورا أشبه بدور المحامى الذى وإن استمع لموكله (الشعب) يبقى له الحق فى تحديد الطرق والآليات الكفيلة بالدفاع عن مصالح هذا الموكل، معتمدا فى ذلك على ما لديه من دراية بالقضايا محل النظر (المعرفة الفنية)، وكذا ما يحوزه من خبرة متراكمة فى ممارسة المهنة.

(2)

ثمة مشكلات أربع ــ على الأقل ــ فى هذا المنطق:

أولها، ما ينطوى عليه من نظرة استعلائية لما يمكن وصفه بـ«دونية الشعوب» فى بلداننا، بدعوى تفشى الأمية وتدنى درجة الوعى والنضج السياسى وانتشار الفاقة بين فئات تلك الشعوب بما يخلق لديها استعدادا طبيعيا للانقياد كالقطيع خلف من يستخدم سطوة الدين أو بريق الذهب أو كلاهما.

هنا يكون لزاما علينا أن نتعاطف مع ذلك المحامى المسكين المضطر، بداعى الواجب، للدفاع عن موكل إما غافل أو جاهل أو مرتشٍ، وأن نقبل ــ عن طيب خاطر ــ حقه (وهنا بيت الداء) فى صياغة مصالح موكله كيفما شاء.

وبمثل هذا التعاطف وذلك القبول نقبل بتحول جوهر العلاقة من «الوكالة» إلى «الوصاية».

وثانيها، أن فيه من التدليس الشىء الكثير، ذلك أنه على الرغم من أن الحكومات الأوروبية لا تستجدى تفويضا شعبيا مسبقا قبل اتخاذ كل قرار داخل الاتحاد، فإن تلك الحكومات تتصرف تحت وطأة سيفين: سيف رقابة ومساءلة برلمانية حقيقية تمثل نبض الشارع وتعبر عنه، وسيف انتخابات عامة معلومة التوقيت يمكن للشعوب خلالها أن تحاسب وأن تعاقب وصولا إلى سحب ملفات القضايا وإلغاء التوكيل الممنوح للمحامى.

أما فى الحالة العربية فإن المحامى/الوصى يمارس مهامه متحررا من هذين القيدين، ويبقى طليق اليدين مادام أثبت براعة فى الهيمنة على الموصى عليه، جنبا إلى جنب مع نيل رضا القوى الدولية الفاعلة. وهكذا تقع مسوغات توكيل المحامى الأوروبى بين يدى شعبه، ويصدر صك الوصاية للأوصياء العرب فى عواصم غير عربية.

وثالثها، أن هذا المنطق فى تسويق مسلك السلطات التنفيذية العربية فى مؤتمرات القمم (كما فى غيرها) لا يفسر أى شى على الإطلاق، فعندما يقف الرئيس الفرنسى فى إحدى القمم الأوروبية مطالبا بإعادة بحث وصياغة نصوص المعاهدة الدستورية الأوروبية وإفساح المجال لتداول ونقاش مجتمعى أوسع لمضامين وتبعات تلك المعاهدة، يمكن فهم هذا الموقف فى ضوء نتائج استفتاء شعبى صوت فيه الفرنسيون برفض المعاهدة.

أما عندما يتجاهل حاكم عربى موقف الرأى العام فى بلده (على صعوبة قياسه بدقة)، وكذا مواقف أغلب الكيانات السياسية والاجتماعية (الأحزاب والنقابات والجمعيات وغيرها من التجمعات)، وينحو منحى مخالفا لهم، فلا يملك هذا المنطق إلا القول بأن تلك هى «المصلحة»، كما يراها الوصى.

وهكذا تبقى أسئلة من قبيل: مصلحة من؟ وأى مؤسسة صاغتها؟ وما مدى شرعية وأهلية تلك المؤسسة؟ مسكوت عنها لغاية واحدة هى ضمان استمرار واستقرار علاقة الوصاية.

وأخيرا، فإن هذا المنطق يضفى على مهمة تشخيص مصلحة البلاد طابعا كهنوتيا غامضا (مجموعة محدودة ممن يحظون بثقة الحاكم بغض النظر عن كفاءتهم، وتلعب المشيئة الإلهية الدور الحاسم فى استبدالهم بأمثالهم)، بديلا عن الطابع السياسى/المؤسسى الذى يدرك أن تحديد مناط المصلحة الوطنية هو خيار سياسى بامتياز، ومن ثم يوزع الأدوار بين المؤسسات، وفقا للاختصاص ويتيح للمجتمع آليات للرقابة والمحاسبة، ولعل الأخطر فى هذا الطابع الكهنوتى أنه يجعل من استدامة البقاء بالسلطة عقودا تتلوها عقود مزية كبرى، إذ تتيح للوصى أن يجمع بين الحسنيين: الدراية الفنية «الحاذقة» والخبرة الطويلة فى خدمة «البلد».

(3)

السؤال الآخر الذى تستدعيه قمة الدوحة كغيرها من القمم العربية (بعد سؤال: من يمثلون؟) هو أقرب إلى الأحجية: إذا كان لديك محام يتولى ملفات قضاياك على مدى العقود المنصرمة، وأخذ يخسرها الواحدة تلو الأخرى رافضا أى تدخل من جانبك يهدف إلى مجرد مشاركتك فى الدفاع عن قضاياك، وقاوم بشدة محاولاتك الودية لسحب قضاياك من مكتبه، وعندما أظهرت بعض التبرم استصدر حكما بالحجر عليك.. ترى ماذا أنت فاعل تجاهه؟
الإجابة عن هذا السؤال وإن كانت تبدو واضحة إلا أنها عسيرة التنفيذ.. الشىء المؤكد، أن انتظارنا نحن الموكلين لأى خير يذكر من وراء اجتماع مثل هؤلاء المحامين ينطوى على حسن ظن يبلغ مرتبة الغفلة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved