عيد الأم.. وفقه المقاصد
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 23 مارس 2018 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
يحرم بعض المتدينين الاحتفال بـ«عيد الأم» وحجتهم فى ذلك ما ثبت عن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» أنه لما هاجر إلى المدينة وجد الصحابة أن يهود المدينة يحتفلون بيومين يلعبون فيهما «أى يتخذونهما عيدا» فأرادوا الاحتفال بهما فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أبدلكم يومين خيرا منهما يوم الفطر والأضحى».
ويستدلون به أن الإسلام لا يعرف سوى عيدين هما الفطر والأضحى، وبالتالى فإن الأعياد الأخرى لا يجوز الاحتفال بها، ومنها الأعياد الاجتماعية مثل عيد الأم وعيد اليتيم وعيد العلم وعيد الفلاح أو العمال، والوطنية مثل عيد الثورة وعيد النصر وغيرهما.. فضلا عن الأعياد العقائدية للملل الأخرى ويحتج هؤلاء الدعاة بأن الأم يجب تكريمها فى العام كله وليس فى يوم واحد.
وفى المقابل نرى أن المسلمين عواما وخواصا يحتفلون بعيد الأم، ويشعرون بأثره الفعال فى تربية الأجيال على بر الأمهات، وتذكير الناس بفضل الأم.
حيث نرى المسلمين يتسابقون فرادى وجماعات لبر الأمهات وصنع الخير معهن وتعويض ما قصروا فيه معهن طوال العام وهم فى كل عام يستمعون إلى تلك الفتاوى التى تحرم الاحتفال بـ«عيد الأم»، ولكنهم لا يلتفتون إليها ولا يقتنعون بها.. ويستمرون فى الاحتفال بهذا اليوم، ويرون أن ترك الاحتفال به يحرمهم ويحرم أمهاتهم من خير وبر كثير، ويحرم أولادهم من غرس هذه القيمة العظمى فى نفوسهم.
وهكذا يستمر الحال فى كل عام هؤلاء يفتون بالتحريم، وعموم المسلمين المصريين لا يرون فتاواهم تمثل الشريعة أو روح الدين من وجهة نظرهم، فيستمرون أيضا فى الاحتفال بهذا اليوم.
وهكذا تسير الأمور، فلا هؤلاء الدعاة توقفوا قليلا لإيجاد صيغة شرعية لهذا الأمر تجمع بين الواجب الشرعى والواقع العملى، وتحقق بر الأمهات، أو يعرضوا بديلا جيدا عنه يقنع سائر المسلمين به.
أما عموم المسلمين فلم يقيموا حوارا مع هؤلاء الدعاة حول فتواهم وأثرها السيئ فى منع هذا الخير العميم الذى يملأ البيوت بهجة وسعادة وينشر بر الأمهات لدى جميع الأولاد الصغير قبل الكبير والفقير قبل الغنى وفى كل البيئات حتى أن الرواج التجارى للهدايا يكون فى يوم عيد الأم أكثر منه فى أى يوم آخر بما فيها أيام الأعياد الدينية.
هذه الإشكالية تتكرر والتصدى لها يكون شائكا، ولكنه أفضل من إهمالها وتركها.
وقبل الفصل فى الأمر يهمنى أن أذكر القارئ ببعض القضايا الشرعية:
أولا: إننى اتفق مع هؤلاء الدعاة فى أن الإسلام لا يعرف سوى عيدين اثنين هما «الفطر والأضحى».
ثانيا: أن مسمى العيد فى الشرع ينطبق على أمرين مهمين:
النسك والعبادة: مثل تكبيرات العيدين وصلاة العيد والإفطار قبل الخروج للمسجد فى عيد الفطر والذبح بعد الصلاة فى عيد الأضحى.. الخ.. فأى عيد لا تكون فيه نسك وعبادة فهو فى الحقيقة ليس عيدا بالمعنى الشرعى الذى قصده الرسول (ص) فى الحديث الذى أشرت إليه آنفا حتى وإن كانت فيه فرحة عامة.
الفرحة لعموم المسلمين: وهذه الفرحة تعم النساء «حتى الحائض والنفساء» والأطفال والشيوخ والأسر جميعا، ليشهدوا الاجتماع الإسلامى النادر الجميل الذى لا يتكرر فى العام إلا مرتين.
ثالثا: أن الأعياد التى لا تشتمل على نسك وعبادة لا تعد أعيادا فى الشريعة، سواء كانت هذه العبادة صحيحة مثل العبادات فى عيد الفطر وعيد الأضحى، أو غير صحيحة مثل بعض أعياد الوثنيين فى بلاد مختلفة تناهض التوحيد والعبودية الحقة لله.
أما الأعياد التى لا تشتمل على نسك وعبادة فهى تسمى أعيادا مجازا لعودتها كل عام، وهذه فى حقيقتها ليست أعيادا بالمعنى الشرعى رغم اشتمالها على فرحة أو بر أو معروف ونحوه ومن أمثلتها «عيد الأم» وعيد النصر وعيد الثورة وعيد العلم، وهى تشتمل على غرض شرعى صحيح من تكريم الأم أو العلماء الأفذاذ أو المقاتلين العظماء، وهذه كلها مصالح شرعية صحيحة.
رابعا: الاحتجاج بأن مثل هذا الاحتفال لم يحدث فى أيام الرسول (ص) والصحابة والتابعين وتابعيهم احتجاج ضعيف، فليس كل شىء يحدث الآن فى حياتنا قد حدث أيام الرسول والصحابة والتابعين، حتى فى أمور المساجد وطلب العلم وطريقته، وهل كان هناك علم أيام الرسول «ص» يسمى أصول الفقه أو مصطلح الحديث أو علم الرجال أو فقه الأولويات أو علم النحو والصرف أو العروض أو علم الكيمياء والفيزياء والذرة ونحو ذلك.
وهذا كله يندرج تحت ما يسمى فى أصول الفقه «المصالح المرسلة» وهو ما فيه مصلحة شرعية للناس ولم يأت هناك نص بتحريمه أو وجوبه أو ندبه، فالأصل فى الأشياء الإباحة «بخلاف العبادة والعقيدة والأبضاع والدماء، فالأصل فيها الحرمة إلا ما أباحه الشرع الحنيف».
إن النظر فى فقه المقاصد يدل دلالة واضحة على أهمية مثل هذا العيد الاجتماعى لبر الأمهات وتعويض القصور الذى يحدث من الأبناء تجاه الأمهات، ويعيد اللحمة الأسرية مرة أخرى، ويدعم التواصل الاجتماعى فى اللبنة الأولى للمجتمع، وبر الأمهات خاصة والوالدين عامة من أعظم مقاصد الشريعة، كما أنه جاء ترتيبه فى فقه الأولويات فى المرتبة الثانية مباشرة بعد عبادة الله وحده «وَقَضَىٰ رَبُكَ أَلَا تَعْبُدُوا إِلَا إِيَاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا».