«انتقام الأبله» لحجاج أدول.. بصيرة الخيال
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 23 مارس 2018 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
بِنَفَسٍ حكائى بارع، وسرد مبهج يعيد لفن الرواية والقصة طزاجته الأولى، يقدم الكاتب والأديب الكبير حجاج أدول نصين سرديين مدهشين فى كتابه الأخير الصادر عن دار الشروق بعنوان «انتقام الأبله وحكاية سمكة الصياد» بغلاف بديع تفنن فى تصميمه الفنان هانى صالح. فى هذا الكتاب يقدم أدول نصوصا مدهشة فى الأثر الذى تحدثه فى نفس قارئها، سرديات تعيد للحكاية فى صورتها الأولى اعتبارها، وتستدعى تراث القص الشفاهى، وأساليب القص العربى القديم، وروح نصوصه السردية الكبرى (ألف ليلة وليلة والحكايات العجيبة والقصص الغريبة.. إلخ).
النص الأول بعنوان (انتقام الأبله) يرويه أدول بضمير الغائب (الراوى العليم)، تدور أحداث هذه السردية البديعة فى قرية بدائية وزمانها المرجعى غير محدد (نكاد نشعر أنها تقترب فى وصفها وتصويرها من إحدى قرى الزنوج الأفارقة)، بطلها عملاق طيب ضخم الجثة اسمه «سومو» لكنه أبله، بالغ الطيبة، يحبه أهل القرية جميعا؛ خاصة عندما يتخرط فى الرقصات الاحتفالية والمناسبات ذات الطقوس المحلية «سومو» فى جميع الرقصات، رقصه لا يتناغم مع إيقاع الطبول، ولا غناؤە يتناغم مع أغانى المغنين، يرقص كما يحلو له ويغنى بصوته الأجش العميق كما يشاء.
سيقع سومو فى حب أجمل فتاة فى القرية، تيماتى الجميلة التى كانت تصده وتعامله بترفع كبير.. فكيف وهى أجمل فتيات القرية، تقبل تودد هذا الأبله الذى هو مسخرة القرية كلها؟! لكن وعلى خلفية حادث مأساوى بشع تتعرض له جميلة القرية الشابة ستقع مأساة أكبر وتتجسد تراجيديا مهولة يواجهها أهل القرية بذهول ورعب.
سنستعيد عبر صفحات هذه السردية القصيرة، وتتبع حكاية سومو الطيب، متعة تلقى الحكايات المدهشة عن هذه الأجواء الأسطورية، التى تختلط فيها الطقوس بالعادات، والحكايات بالخرافات، ومفردات الثقافة المحلية وطبيعة العلاقات الإنسانية فى مجتمع قبلى له خصوصية عشائرية واجتماعية، هذه الأجواء التى تذكرنا بظلال من رواية النيجيرى تشينوا أتشيبى «الأشياء تتداعى»، وسحرها الأسطورى وشخصياتها التى لا تنسى.
يبرع حجاج أدول فى نسج نص مواز، بديع، ممتع، يُقرأ بشغف كبير وفضول مثير فى جلسة واحدة، يعيد الاعتبار مجددا للحكاية البدائية، ويقدم عالما غريبا بمفرداته وعلاماته الثقافية والحضارية، بدءا من تصوير الطقوس الاحتفالية والأطر الاجتماعية التى تحكم هذا المجتمع القبلى البدائى، مرورا بشخصياته التى تصطرع فى جوانبها نوازع الخير والشر، الشهوة والفضيلة، النور والعتمة، لتتجلى مأساة الإنسان فى كل زمان ومكان.. السقوط الأخلاقى المريع، الانزلاق إلى الجريمة وسفك الدماء دونما وازع من أخلاق أو ضمير.. فكان لزاما أن تقع المأساة!
السردية الثانية التى يضمها الكتاب بعنوان (حكاية سمكة الصياد والعفريت المراهق)، ولا يخفى ما فى العنوان من تناص مع النص السردى الأكبر (ألف ليلة وليلة) إذ يحيل العنوان إلى تيمة الحكايات التى تسمت بأسماء الصياد والعفريت وتكررت بتنويعات مختلفة فى ألف ليلة وليلة.. وتمضى الحكايات على منوال الاستيحاء والاستلهام من «خيال» الليالى، وفانتازيا الحكى.
ذات شتاء بارد، يلقى الشاب سمكة صياد بشبكته فى البحر مرات لكنها تخرج خاوية، يلقيها آخر مرة، فتمنحه قمقما ما يكاد يفتحه حتى ينطلق منه عفريت، بقدمه يسد سمكة فتحة القمقم ليمنع العفريت من الخروج، العفريت يقسم لسمكة باسم جده العظيم (شتاريشا) أنه لن يؤذيه وسيحقق له ثلاثة طلبات، يخرج العفريت، عفريت صبى ضخم، ليبدأ حوار ساخر بين سمكة والعفريت (شوشو)، ونتابع الأحداث بمتعة وافرة.
ورغم قصر النصين السرديين، فإن حجاج أدول يقدم تحية لفن القص والخيال الإنسانى المبدع الذى استطاع عبر الفن أن يجسد آماله وأحلامه، تطلعاته وطموحاته، ونزوعه الأبدى لخرق المألوف والخروج على الأطر الاجتماعية والأخلاقية وكسر التابوهات، واكتشاف المجهول والسعى وراء هم النفس إلى أقصى الغايات. لقد أراد حجاج أدول أن يتأمل، من خلال هذه النصوص، ذاته بكل مآسيه وأفراحه وأتراحه وعُقده، وأن يعيد تشكيل الواقع بعجينة الخيال، يبذر بذور مشروع طموح فى أرض بكر؛ أرض الحكايا والغرائب والعجائب، والسرديات المدهشة.
بالتأكيد يمثل هذا الكتاب (انتقام الأبله) حلقة مهمة من مشروع سردى ضخم وطموح لحجاج أدول، يعكف عليه منذ سنوات، وأنجز منه قسطا وافرا، يسعى من خلاله إلى التواصل مع روح الأعمال السردية الكبرى المنحازة للخيال الفطرى وبكارة الثقافة البدائية وخصوصية الثقافات المحلية، كما أنها أيضا تؤكد القيمة الإبداعية لجهود واحد من الساردين الكبار الذى قدم عبر مشواره الباذخ العديد من الأعمال المهمة التى حفرت لنفسها مكانا مهما فى المشهد السردى المعاصر.