اقتصاد القاهرة التاريخية

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الثلاثاء 23 مارس 2021 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

هل يمكن فقط للحفاظ على المناطق التاريخية التركيز على السياحة والحرف التقليدية؟ لا أعتقد أن هذا ممكن أن ينجح لأن التجربة المصرية فى تخطيط المدن بالاعتماد على السياحة، حتى فى المناطق التى يتوجه لها السياح بأعداد كبيرة مثل البحر الأحمر، بها العديد من المشاكل. ويكفى فقط أن نشير لمدينة القصير، حيث توقع المخطط العام لها والذى تم اعتماده فى عام 1998 أن تطوير المناطق السياحية خاصة فى شمال وجنوب المدينة سيؤدى إلى خلق فرص عمل كبيرة يمكن أن تشكل دعما كبيرا لجذب السكان إلى المدينة وتوقع المخطط أن يزيد عدد السكان فى سنة 2017 على مائة ألف نسمة وهو ما لم يحدث للأسف وبفارق كبير للغاية. وبالطبع فإن عدد السكان المتوقع يتطلب شبكة بنية تحتية بحجم معين من طرق وخلافه بالإضافة إلى الأراضى التى ستخصص للمناطق السكنية. ولا شك أن عدم تماشى الوقائع مع التوقعات خاصة بفارق كبير يستدعى منا أن نأخذ الحذر بصورة أكبر.
وحتى فى المدن التى تزدهر بها السياحة بصورة كبيرة، مثل البندقية، فإن التأثير السلبى الذى جلبه ملايين السائحين على المدينة قد يكون من الصعب تقديره، كما أنه ترك المدينة فى وقت الجائحة فى وضع لا تحسد عليه نتيجة اعتماد اقتصادها شبه الكامل على السياحة. وهذا الاعتماد المبالغ فيه على السياحة هو ما يحذر من نتائجه السلبية الكثيرون. ويطالبون ــ وأنا منهم ــ بترشيد أعداد السياح للحفاظ على المقومات البيئية والمادية للمدن التاريخية والمناطق الطبيعة. ويذكرنا التقرير الهام الصادر منذ عام عن اللجنة الدولية العابرة للحكومات، والذى يحذر من أن النشاط السياحى الكبير الذى يشهده البحر الأحمر قد يؤدى ضمن عوامل أخرى إلى انهيار النظام البيئى الحساس للغاية للشعاب المرجانية وهو ما سيكون له أثر من الصعب التعامل معه على الأقل فى المستقبل المنظور.
***
القاهرة التاريخية تؤرق مضجع الكثير من المتخصصين، ولكنها أيضا مكان للعيش لمئات الآلاف وقد شهدت تغيرات كبيرة اجتماعية واقتصادية خاصة مع عهد محمد على. وهناك العديد من الكتابات الرائعة التى توثق للتغيرات التى حصلت عبر تاريخ القاهرة التاريخية سواء اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيا، ولعل من أهمها كتاب «القاهرة» للباحث والمؤرخ الفرنسى الكبير أندريه ريمون والذى ترجم للعربية بدقة وجمال فى عام 1994.
لا يجب أن ننسى أن المدن التاريخية نشأت وتطورت وازدهرت لأسباب عديدة على رأسها أسباب اقتصادية ودائما كان للاقتصاد دور رئيسى فى ازدهارها وقدوم الزائرين لها وظهور وإنشاء نوعيات المبانى مثل الوكالات وغيرها، كما يجب ألا ننسى ما كان من تأثير لاكتشاف الطريق البحرى عبر رأس الرجاء الصالح من تغيير كبير على تدهور اقتصاد المدينة ثم تبع ذلك سقوطها فى أيدى العثمانيين. وهناك العديد من التأثيرات الاقتصادية التى يمكن تتبع تأثيرها عبر التاريخ الطويل لمدينة القاهرة.
التعامل مع الحرف التقليدية عملية مركبة فهناك أولا الحفاظ على تراث تلك الحرف والعمليات المختلفة المرافقة لها سواء من مواد وتقنيات يجب تعلمها بصورة صحيحة وتشجيع شباب صغير للعمل بها وهو ما يتطلب مؤسسات تعليمية وبحثية وحوافز لجذب عمال المستقبل. وهناك أيضا تطوير ودمج بعض من تلك الحرف لتستجيب للاحتياجات المعاصرة وتلك عملية تتطلب أيضا مؤسسات بحثية وتعليمية يقودها مصممون مبدعون لدينا بعض منهم ولكننا نحتاج الكثير كما نحتاج لأن تكون تلك العملية مستمرة وفى إطار تنافس دولى حتى يمكن فعلا أن تكون المنتجات ذات قيمة. ولدينا مدرسة حرفية أنشأتها أحد أشهر مصممات الحلى فى مصر وربما نحتاج العديد من هذا النموذج.
***
من التجارب التى ليست بعيدة عنا زمنيا على الأقل تمثل تجربة «الأغاخان» فى تطوير بعض المناطق المجاورة لحديقة الأزهر وخاصة فى الدرب الأحمر ما يمكننا التعلم منه ونقده والتساؤل عن كيفية القيام بتطوير مستدام لخدمة المجتمع المحلى. وهو فى الغالب يتطلب أكثر من النوايا الطيبة والتمويل والخبراء الفنيين.
منذ عدة سنوات قمت مع طلبة الماجستير بدراسة منطقة الحسينية على أطراف القاهرة التاريخية ومن الأفكار التى ناقشناها بجدية، حتى يمكننا تحقيق اقتصاد مستدام يكون أساسا لتطوير ذلك المكان الذى يكاد يكون منسيا، فكرة الاقتصاد المعتمد على النشاط فى البيوت. مثلا الصين لديها نموذج للعمل تقوم من خلاله ربات البيوت المدربات بتجميع أو عمل بعض المنتجات سواء ألعاب أطفال أو منتجات أخرى ثم يتم جمعها وعمل الخطوات الأخيرة فى المصنع البعيد. وتمثل التطورات الرقمية المعاصرة والآخذة فى التطور بسبب الجائحة وتوقع العديد من أصحاب الأعمال تغير نمط العمل ليصبح جزءا كبيار منه من البيت ليوفر فرصة جيدة للغاية لسكان القاهرة التاريخية فى حال توفير التدريب المناسب للشباب منهم.
يحتاج النشاط الاقتصادى المستدام إلى عديد من الأنشطة المتنوعة القابلة للتطور والتى تأخذ فى حسبانها قدرات ومهارات المجتمع المحلى وتحاول بجدية من خلال التعليم والتدريب تطوير تلك القدرات. ولا شك أنه سيكون من ضمنها أنشطة متعلقة بالسياحة والحرف التقليدية ولكنها ربما لن تشغل النسبة الأكبر من تلك الأنشطة.
الجانب البيئى أيضا هام للغاية وهو هنا لا يتطلب زراعة نخيل أو أشجار لأن طبيعة المكان التاريخية كان بها القليل منها، ولكن الأهم هو جودة الهواء وتحسينه يتطلب العديد من المجهودات التى أتمنى أن تكون مبنية على معلومات مدققة عن الملوثات العالقة حتى يمكن توجيه وتطوير الجهود لمكافحته، والتى أتصور فى كل الاحوال أنها يجب أن تبدأ بمنع المركبات الآلية من المنطقة التاريخية وربما من حولها وتوفير البدائل غير المميكنة والكهربية وهو ما يتطلب دراسة شاملة وإجراءات للتحول ربما تتطلب بعض الوقت حتى يقتنع بها السكان والزوار ويتبنوها كسلوك حياة.
***
ما قرأته عن مجموعة المشروعات المزمعة فى القاهرة التاريخية وتركيز أغلبها على السياحة والحرف التقليدية يثير لدى قلقا عميقا، كما يقلقنى ما أعلنه السيد رئيس الوزراء من أن التطوير سيبدأ بعد شهر وسينتهى فى سنتين لأن تطوير الأنشطة الاقتصادية المتنوعة حتى تصبح مستدامة هو ما يمكن أن يبقى على سكان تلك المناطق فيها وغير ذلك سيؤدى لارتفاع فى قيمة المبانى وبالطبع ستكون الفرصة الكبيرة للسكان لتحسين أوضاعهم الاقتصادية هو الانتقال لأماكن اخرى والاستفادة بالفوارق المالية.
يمكن لمشروع لتطوير مستدام للقاهرة التاريخية أن يكون من الأدوات الهامة لمعالجة التحديات التى تواجه المجتمع والتى تشعر المواطنين أنهم هم الأساس ومحور الاهتمام، لا السائح الذى هو زائر عابر وضيف لا شك أنه سيرغب فى زيارة مكان ملئ بالحياة الحقيقية، وسكان عاملتهم حكومتهم بكل احترام وراعت احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية لأنها اقتنعت أن هذه هى الوسيلة المستدامة لتحقيق أكبر عائد على الإنفاق المزمع حتى لو تطلب الأمر وقتا أكبر حتى تنضج الخطط وتتحول لأعمال.

أستاذ العمارة بجامعة القاهرة.

الاقتباس
لا يجب أن ننسى أن المدن التاريخية نشأت وتطورت وازدهرت لأسباب عديدة على رأسها أسباب اقتصادية ودائما كان للاقتصاد دور رئيسى فى ازدهارها وقدوم الزائرين لها وظهور وإنشاء نوعيات المبانى مثل الوكالات وغيرها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved