الدم اليمنى فى ذكرى الوحدة والانفصال
فوّاز طرابلسى
آخر تحديث:
الخميس 24 مايو 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
بالدم تعمدت الذكرى الثانية والعشرين لإعلان الوحدة اليمنية فى ٢٢ ايار ١٩٩٠. لا أقل من مائة ضحية بين قتيل وجريح حصدها التفجير الانتحارى المنسوب إلى تنظيم القاعدة وسط وحدات عسكرية تتدرب فى صنعاء على العرض العسكرى المزمع تنظيمه بالمناسبة. أما فى الطرف الثانى من البلاد، فإحتفال بمناسبة نقيضة هى إعلان «فك الارتباط» بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية الذى أعلنته القيادة الجنوبية خلال ما سمى «حرب الوحدة والانفصال» بين شطرى اليمن يوم ٢٢ ايار ١٩٩٤. احياء لهذه المناسبة، تظاهرات صاخبة لقوى «الحراك الجنوبى» من حضرموت إلى عدن ولحج تعرضت للقمع بالرصاص من قبل القوى الامنية والعسكرية ومسلحى «التجمع اليمنى للإصلاح».
●●●
لعل أكبر مفارقة بين شطرى اليمن منذ نيل الجنوب استقلاله، وتوحيده أواخر عام ١٩٦٧ هو التناوب على مدى عقدين من الزمن بين الشطرين على حروب حدودية ومحاولات نظام إسقاط النظام الآخر لا تلبث ان تنتهى باتفاقيات وحدة. لا أقل من خمس اتفاقيات للوحدة بين التوأمين اللدودين قضت أولاها الموقعة فى تعز أواخر ١٩٧٠ بإقامة اتحاد فيدرالى. ونشب أول اقتتال حدودى عام ١٩٧٤ انتهى بتوقيع اتفاقيتين للوحدة فى القاهرة وطرابلس تلتهما ثالثة فى الجزائر فى أواخر العام. وجاءت المحاولة الجادة لتحقيق الوحدة بين البلدين مع استيلاء اللواء إبراهيم الحمدى على الحكم فى صنعاء عام ١٩٧٤. قضى على التقارب الشديد بين البلدين اغتيال الحمدى يوم ١١ أكتوبر ١٩٧٧عشية زيارة له إلى عدن لتوقيع اتفاقية وحدة مع الجنوب. توترت العلاقة بين الشطرين جراء اغتيال الحليف الشمالى. رد الجنوب بالضلوع فى اغتيال الرئيس احمد الغشمى، الذى خلف الحمدى والمتهم باغتياله، بمعاونة على عبدالله صالح. خسرت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية رئيسين لأسباب تتعلق بالشمال والوحدة. الرئيس سالم ربيع على، الذى جرى تحميله المسئولية عن اغتيال الغشمى وتنفيذ الإعدام به. والرئيس عبدالفتاح إسماعيل الذى جرى تحميله المسئولية عن محاولة إسقاط النظام الشمالى بواسطة حملة عسكرية داخل الأراضى الشمالية فى عام ١٩٧٩. عارض الحلفاء السوفييت الحرب وقطعوا إمداد السلاح عن حلفائهم الجنوبيين، وانتهى الامر باتفاق الكويت بين الرئيسين عبدالفتاح إسماعيل وعلى عبدالله صالح، والعودة إلى المشاريع التوحيدية. وسوف يزاح عبدالفتاح إسماعيل عن رئاسة الحزب والدولة بعد أشهر من الحدث.
تضافرت ثلاثة عوامل على الدفع أخيرا باتجاه الوحدة: حرب التصفية بين أجنجة الحزب الاشتراكى اليمنى فى ١٣ يناير ١٩٨٦، انهيار الاتحاد السوفييتى، واكتشاف حقل نفط كبير على الحدود بين البلدين وضعهما معا أمام امتحان الوحدة أو الاقتتال مجددا. مع ذلك، تم الاتفاق على الوحدة بارتجال شديد كاد أن يتلخص فى اتفاق شفوى بين الأمين العام للحزب الاشتراكى على سالم البيض والرئيس على عبدالله صالح على وحدة اندماجية فورية. عارضت العربية السعودية المشروع الوحدوى وعرضت تغطية ديون اليمن بديلا من السوفييت. لكن التصويت فى المكتب السياسى أصر على الخيار الوحدوى. فى المقابل، كان للوحدة راعيان صدام حسين عربيا والولايات المتحدة المتحدة دوليا، وقد رأت الأخيرة فى الوحدة تصفية للنظام الماركسى العربى الوحيد الحليف للاتحاد السوفييتى.
●●●
لم تعمر التجربة الوحدوية أكثر من أربع سنوات. تصورها الجنوبيون مناصفة للسلطة والقرار بين حزبين حاكمين، المؤتمر الشعبى العام والحزب الاشتراكى اليمنى، كان مطلعها قيام مجلس رئاسى تمثل فيه الطرفان وتسليم الرئيس السابق للجنوب رئاسة الوزراء، وحضور وازن ومتوازن للجنوبيين فى الوزارات والإدارة والقيادة العسكرية. فيما رأى على عبدالله صالح فى الوحدة لا أكثر من عودة الجنوب ــ «البريطانى» تارة و«الشيوعى » تارة أخرى ــ إلى بيت الطاعة. وجاءت الانتخابات النيابية فى نيسان ١٩٩٣ لتحول الحزب الاشتراكى اليمنى إلى طرف ثانوى فى السلطة الجديدة إذ نال ٩٦ من أصل ٣٠١ من مقاعد المجلس النيابى.
شكك القادة الجنوبون فى النتائج وقرروا العودة إلى عدن رافضين المشاركة فى الحكومة. ولعل أبرز حدث دفع على عبدالله صالح إلى الحسم العسكرى هو توقيع القوى السياسية الرئيسية فى الشطرين على «وثيقة العهد والاتفاق» برعاية الملك حسين فى عمان، التى استقوى بها معارضو على عبدالله صالح الشماليون للنص على تقليص صلاحيات رئيس الدولة شبه المطلقة، وتعزيز المؤسسات المنتخبة ودولة القانون وتوسيع الحريات وحمايتها وبناء دولة حديثة. رفض على عبدالله صالح تنفيد الوثيقة وسارع إلى إعلان الحرب على الجنوب فى نيسان ١٩٩٤ بعد ان استجلب الآلاف من الأفغانيين العرب ليشكلوا وقودها، برعاية أمير السلفيين الوهابيين فى اليمن الشيخ عبدالمجيد الزندانى، وقيادة اللواء على محسن الأحمر، اليد العسكرية اليمنى لعلى عبدالله صالح. وفى ٢٠ ايار أعلن نائب رئيس اليمن الموحد على سالم البيض فك الارتباط بين البلدين. دعمت العربية السعودية الانفصال الجنوبى وأوحت بامكانية استصدار قرار من الجامعة العربية بإرسال قوة ردع عربية لوقف الاقتتال تسهم فى تثبيت الحدود بين الشطرين لصالح استعادة اليمن الديمقراطية الشعبية حدودها والسيادة. أو هكذا فهم الجنوبيون واملوا فخاب ظنهم. انتصر جيش الشمال ودخل عدن فى ٧ تموز ١٩٩٤.
●●●
ان قصة «الحراك الجنوبى» هى قصة الكيفية التى بها تعاطى نظام صنعاء مع الجنوب بعد النصر العسكرى بمنطق المنتصر والمهزوم. ساد التمييز بين الشمالى والجنوبى. جرى تسريح عشرات الألوف من العسكريين والموظفين الأمنيين والإداريين الجنوبيين. وطغت الإدارة المركزية على المحافظات الجنوبية. وساد الفساد والمحسوبية فى توزيع الأراضى والعقارات والشقق والمؤسسات والمصانع المؤممة وخدمات الشركات النفطية على الأسرة الحاكمة وحاشيتها القريبة. وأهمل مرفأ عدن، المفترض انها العاصمة الاقتصادية للبلد الموحد.
بدأ الحراك الجنوبى عام ٢٠٠٧ بمطالب متواضعة هى إعادة عشرات الألوف من الموظفين والعسكريين المطرودين إلى العمل أو التعويض عليهم وتطبيق اللامركزية الإدارية التى طالما تشدقت بها صنعاء. وكما هى العادة فى كل هذه الحالات تدحرجت كرة ثلج أمام تعنت النظام فى صنعاء وقمعه المتصاعد، لترتفع أصوات تطلب بالانفصال بعد عامين من بدء الحراك. خبا المطلب بعض الشىء مع انطلاق الثورة عام ٢٠١١ فيما انضوى قسم من الشباب الجنوبى فى الحراك الثورى، على عكس زعماء الحراك الذين توزعوا بين من اعتبر ان مصير على عبدالله صالح «مسألة شمالية» لا تخص الجنوب، وبين من كان يعتقد بأن بقاء على عبدالله صالح هو أصلح حال بالنسبة للقضية الجنوبية.
عاد الحراك بقوة أكبر مع تطبيق المبادرة الخليجية التى اعفت على عبدالله صالح من أى محاسبة شرط التنحى لنائبه، وغلبت تشكيل الحكومة والاستفتاء على الرئيس الأوحد، على البحث فى عوامل الأزمة الملتهبة: الحراك الجنوبى، الحركة الحوثية، الثورة فى تعز، كبرى المحافظات ومركز الصناعة اليمنية، وأخيرا ليس آخرا شباب الثورة فى كل مكان الطامحين إلى بناء يمن جديد فى نظام سياسى واجتماعى حديث وديمقراطى. تم ذلك كالعادة باسم أولوية الهم الأمنى بعد ان أفاد تنظيم «القاعدة» من الفراغ الحاصل لابتناء قواعد له فى المحافظات الجنوبية والتصعيد الدموى لعملياته الإرهابية.
●●●
لقد سقطت «المركزية التقسيمية» وقاعدتها صنعاء مع خلع على عبدالله صالح. والمشهد اليمنى هو الآن مشهد من النوازع الجهوية النافرة من المركز يحتاج إلى اعادة تركيب على أسس جديدة.
تتحمل الحكومة فى صنعاء، والولايات المتحدة والسعودية وجماعة المبادرة الخليجية من وراءها، المسئولية الابرز على تعميق حالة التفكك وعلى العمل على وأد القوى الحية للشعب اليمنى متمثلة بشبابه الثائر. والأهم انها تتحمل المسئولية التاريخية عن عدم مد اليد لاشراك كافة قوى الاعتراض والاحتجاج فى القرار السياسى منذ اللحظات الأولى لتنحى الرئيس السابق. ولكن يجب القول فى الآن ذاته ان هذا الاستبعاد لا يبرر بأى حال لجوء الحركة الحوثية وبعض قادة الحراك الجنوبى إلى إيران على أمل الاستقواء بها لتحصيل الحقوق والمطالب على الأرض اليمنية. تدل الدروس الأليمة لقوى سبقت اليمنيين إلى الاستقواء بالخارج على الأشقاء فى الداخل مدى الفشل والخسران، حتى لا نقول الكوارث، التى تنطوى عليها تلك المغامرات المكتوب لها الفشل الذريع.
فى مواجهة انهيار المركزية التقسيمية، لا مجال إلا الاعتراف بضرورة إعادة صياغة كيانية تستدعى انتهاء التمييز بين اليمنيين، وتعميم المساواة بينهم فى المواطنة، والقبول بالتعددية، وتوسيع قاعدة الحياة السياسية والحريات العامة، ولكن الأهم والاعجل هو استفتاء مكونات الشعب اليمنى على الشكل الأنسب للحكم الذى يرتأيه لنفسه. ويمكن ان يتخد هذا الاستفتاء طابعا وطنيا عاما أو محليا، حسب الظروف والحاجات.
والمؤكد ان ترجمة ذلك المبدأ فى حالة المحافظات الجنوبية هو الاقرار بحق الأهالى فى استفتاء شعبى برعاية عربية ودولية يقررون فيه نمط ارتباطهم بسائر أجزاء اليمن. ان ربط مصير المسألة الجنوبية بالنزاع السعودى ــ الإيرانى فى المنطقة، وعلى المنطقة، قد يعنى تأجيل البت فيها إلى ما لا نهاية، أو هو قد يؤدى إلى ان تذهب قضية الجنوب «فرق عملة» عندما يتفق الطرفان. فالصدام والتنافس ليس بالضرورة المآل الحتمى للعلاقة بينهما.