فولكلور النكبة

أحمد يوسف أحمد
أحمد يوسف أحمد

آخر تحديث: الخميس 23 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

أصبحت ذكرى نكبة فلسطين والمظاهر المحيطة بها نوعا من الفولكلور، يستمد من خيانة قوات الانتداب البريطانى الأرض والشعب اللذين يفترض أنهما كانا ضمن قرارات عصبة الأمم عقب الحرب العالمية الأولى، واللتين رأت العصبة أنهما ضمن الأقاليم التى تحتاج إشرافا دوليا - سُمى بالانتداب - حتى تكمل طريقها نحو الاستقلال، لكن السياسة البريطانية خانت أمانتها فى فلسطين بأكثر من معنى، فقد فتحت باب الهجرة اليهودية غير المشروعة على مصراعيه إلى داخل فلسطين، ثم خانت الأمانة مرة ثانية حين سمحت لهؤلاء اليهود بإقامة المقومات الجنينية لدولتهم الصهيونية على أرض فلسطين، وكانت ثالثة الأثافى هى الانسحاب المفاجئ من فلسطين عشية إعلان الدولة الصهيونية فى 15 مايو 1948. يستمد هذا الفولكلور كذلك من المذابح الصهيونية لشعب فلسطين لترويعه وإجباره على مغادرة أرضه كى تصبح مرتعا للدولة الصهيونية، ونضال الفلسطينيين من أجل الاحتفاظ بأرضهم فلم ينجحوا إلا قليلا. ويستمد أيضا من محنة الشتات وحلم العودة مجسدا فى احتفاظ كل منهم بمفتاح داره فى الوطن.

 

●●●

 

والفولكلور مهم ولابد منه كى يبقى الوطن فى الذاكرة، لأنه يوم تضيع الذاكرة الوطنية يضيع الوطن، ولذلك لابد من مقاومة كى لا نتعود على الاكتفاء بالفولكلور وننشغل به عن استعادة الوطن السليب، وقد بدأت أعمال المقاومة فور وقوع النكبة لكنها كانت أعمالا فردية غير منظمة، ثم تبلور المشروع القومى التحررى فى منتصف الخمسينيات، وأصبحت مصر –حاملة راية المشروع- تؤيد أعمال المقاومة ضد المستوطنات الصهيونية جنوب إسرائيل، بل وتخطط لهذه الأعمال وتقودها، وكان هذا واحدا من أسباب مشاركة إسرائيل فى العدوان الثلاثى على مصر فى 1956، فقد شاركت أولا باعتبارها مخلب قط لقوى الهيمنة عقابا لمصر على موقفها المعادى لسياسة الأحلاف الغربية، وثانيا لضرب التجربة المصرية الوليدة بعد ثورة 1952 مخافة أن يكون نجاحها نهاية لإسرائيل، وعلى الرغم من أن مشاركة بريطانيا وفرنسا فى العدوان قد أتاحت لإسرائيل احتلال قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء بالكامل فإن مقاومة الشعب المصرى وتأييد العرب واعتراض القوتين العظميين فى ذلك الوقت (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى) كلها عوامل أدت إلى انسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلتها بحلول أول مارس 1957، وبلغ نجم عبد الناصر الذروة وأصبح موضع آمال الشعوب العربية الخاضعة للاحتلال عامة والفلسطينيين خاصة، وبالفعل شهدت سنوات حكمه تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بقرار من القمة العربية الثانية فى مدينة الإسكندرية فى 1964. كذلك أفضى مناخ المد القومى إلى أول بداية لمقاومة عسكرية مسلحة بإطلاق أول رصاصة من بنادق «فتح» ضد العدو الصهيونى فى 1/1/1965، والمفارقة أن هزيمة 1967 لم تؤد إلى تراجع فى عمليات المقاومة بل على العكس أثبتت المقاومة الفلسطينية أنها أصبحت «فاعلا» عسكريا يُحسب حسابه فى معركة «الكرامة» على الأراضى الأردنية فى 1968.

 

●●●

 

لكن المقاومة واجهت كغيرها من حركات التحرر الوطنى – وإن بدرجة أشد فى معظم الأحوال- عديدا من المشكلات التى تعود فى بعضها إلى عوامل خارجية وفى بعضها الآخر إلى عوامل داخلية. أما أثر العوامل الخارجية فمن المعروف أن كل حركة تحرر وطنى تحتاج إلى قاعدة دعم خارجى تستطيع أن تلجأ إليها إذا ادلهمت الأمور ولم يكن لها فى أراضيها المحتلة قواعد داخلية، وبسبب ظروف الجبهتين المصرية والسورية كان لبنان والأردن هما القاعدتان الوحيدتان اللتان أمكن للمقاومة أن تعمل من خلالهما، غير أن المقاومة فيما يبدو لم تحسن إدارة العلاقة مع هاتين الدولتين. كانت المقاومة قوة بازغة صاحبة قضية أثبتت حضورها العسكرى، وأصبحت تتصرف دون تنسيق مع سلطات الدولتين مما جعلها تبدو بالتدريج دولة داخل الدولة. صحيح أن هذا التنسيق كان من شأنه أن يضع قيودا لا أول لها ولا آخر على حركة المقاومة، لكن المقاومة من ناحية أخرى كانت تقوم بعمليات موجعة للعدو تدفع الدولتان ثمنا باهظا لها نتيجة تعرضهما لضربات العدو الانتقامية، وقد أمكن تطويق الموقف مرحليا بالنسبة للبنان باتفاقيتين فى 1968 و1969 برعاية عبد الناصر، لكن الموقف انفجر بشكل مروع بين السلطات الأردنية والمقاومة فى سبتمبر 1970 فيما يشبه حربا بين دولتين، وهو الموقف الذى وضعت له نهاية مؤقتة بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار فى القمة الاستثنائية التى دعا إليها عبد الناصر قبل وفاته بأيام معدودات، غير أن الوجه الآخر لوقف إطلاق النار تمثل لاحقا فى خروج قوات المقاومة من الأردن. أما لبنان فقد انتظر حتى 1982 حينما وقع الغزو الإسرائيلى، وتحصن ياسر عرفات ورجاله فى بيروت، وصمدوا لمدة تقارب الشهور الثلاثة إلى أن شعروا بأنهم لن يحققوا بهذه المقاومة سوى تدمير بيروت، فانسحبوا فى ظل ضمانات عربية ودولية إلى صنعاء وتونس وغيرهما، ولم يعد للمقاومة أى قاعدة متاخمة للعدو.

 

●●●

 

أما العوامل الداخلية فتعود أساسا إلى تشرذم فصائل المقاومة، وهى ظاهرة معروفة فى كل حركات التحرر الوطنى، ولكن كان يخفف منها وجود فصيل قوى إما أن يقضى على الفصائل المناوئة له بالعنف، أو يجذبها إلى صفوفه بالدبلوماسية، أو يتعايش معها دون أن يخشى على دوره القيادى فى عملية التحرر، وكان هذا هو الوضع فى الحالة الفلسطينية بين «فتح» وغيرها من الفصائل الأصغر إلى أن تغيرت الخريطة الفلسطينية بظهور «حماس» على ساحة المقاومة فى مطلع النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضى. كانت «فتح» قد قبلت مبدأ التسوية باعتماد قمة فاس1982 مبادرة ولى العهد السعودى آنذاك (الأمير فهد بن عبد العزيز)، وفى هذا المناخ ظهرت «حماس» ببرنامج مقاوم يختلف جذريا عن الوضع الذى آل إليه برنامج «فتح» فى ظل مناخ التسوية، وحققت «حماس» إنجازات لافتة فى مجال المقاومة، ثم أجج توقيع «فتح» على اتفاقية «أوسلو» 1993 الخلاف بينهما على محور المقاومة-التحرير، وبعدها زاد حضور «حماس» فى الساحة الفلسطينية سياسيا وعسكريا، خاصة بالنظر إلى الإخفاقات المتتالية لتطبيق «اتفاقية أوسلو»، فظل نجم «حماس» فى صعود حتى اتخذت القرار «الخاطئ» كحركة مقاومة بدخول الانتخابات التشريعية فى عام2006، وكان طبيعيا على ضوء ما سبق أن تكتسحها، وأن تتولى تشكيل الحكومة وفقا لنظام الحكم فى «اتفاقية أوسلو»، وهكذا تحولت «حماس» إلى ما يشبه الدولة عليها أن تدافع عن إقليمها وتحمى شعبها وتذود عن منشآتها فوق الأرض بعد أن لم تكن مسئولة إلا عن «الكر والفر». ويضاف إلى ذلك أن إسرائيل ومعها القوى العالمية المساندة لها حافظت على نظرتها «لحماس» كحركة إرهابية وبالتالى فهى خارج نطاق التفاوض، كذلك كان لدى «حماس» شعور له مبرراته بأن هناك نية لتصفيتها لحساب عملية التسوية، وفى هذا المناخ وقع الصدام المسلح المروع بين قوات «فتح» و«حماس» على أرض غزة فى يونيو2007، وتم طرد فتح منها، وهو صدام ما زلنا نعانى من تداعياته على القضية الفلسطينية حتى الآن وبعد مرور قرابة ست سنوات رغم كل محاولات الصلح بينهما التى نقرأ ونسمع عنها فى وسائل الإعلام ولا نراها على أرض الواقع.

 

فهل بقى لنا الفولكلور وضاع طريق العودة، بل وضاعت منا «البوصلة» الوحيدة التى تمكننا من تصحيح المسار؟

 

 

 

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

 

ومدير معهد البحوث والدراسات العربية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved