معركة الصناديق
صحافة عربية
آخر تحديث:
السبت 23 مايو 2020 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
نشرت جريدة المغرب التونسية مقالا للكاتبة آمال قرامى.. نعرض منه ما يلى..
ما الذى يحدث عندما يغيب الاستقرار السياسى وتحل أزمات تعصف بـ«التوافق» المنشود؟ ما الذى يحدث عندما تشعر القوى المهيمنة أن مصالحها باتت مهددة، وأن إرهاصات الغضب الشعبى صارت جلية؟
ليس أمام الفاعلين السياسيين فى مثل هذه الحالة، إلا الاستماتة فى سبيل الدفاع عن استحقاقاتهم وشرعيتهم والتفكير فى أشكال التصدى لجبهات المقاومة ومواجهة السيناريوهات الممكنة، وعلى رأسها سقوط الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، وليس إطلاق صندوق الزكاة فى مثل هذا السياق، فى اعتقادنا، إلا استراتيجية تعبوية تظهر فى لبوس اجتماعى / دينى لكسب معركة سياسية: صندوق الانتخابات، ولا عجب فى ذلك فبعد أزمة الثقة فى السياسيين ما عاد بالإمكان تحريك سواكن الجموع إلا بالعزف على أوتار الدين، وبعد أزمة الكورونا وما ترتب عنها من تضاعف أعداد المفقرين والمعطلين و«المستضعفين» لا حل إلا فى تفعيل مقولة «الإسلام هو الحل» وما يستتبعها من تعويل على العمل الخيرى.
وبما أن حجة الدفاع عن الإسلام قد اختبرت من زمان فكانت ذات «نجاعة»، خاصة فى سياق الأزمات والشعور بالمخاوف وحاجة الجموع إلى «تفريج الغمة» وخطاب دينى مطمئن فلا بأس من استعادة الاستراتيجيات القديمة القائمة على تقسيم التونسيين إلى معسكرين: معسكر المنافحين عن الدين والفرائض والخير والمقدس.. فى مقابل معسكر المدافعين عن مدنية الدولة والدستور ومؤسسات الدولة وقيم الجمهورية.. ليفضى الأمر إلى جدال وعنف لفظى وتكفير وشيطنة العدو وتبادل للتهم والتخوين.
ولا يذهب فى الظن أن المعجم قد تطور. فمن خالفنى الرأى صار عدوا بل عدو الله وخارجا من الملة أو هو فى منظور الشق الآخر، عدو الحداثة ومنقلب على الدستور ومدنية الدولة و«داعشى» وبيدق فى يد قطر وتركيا.. بل وصل الأمر إلى اعتبار من لم يصرح بموقفه من صندوق الزكاة حتى وإن كان من نفس «معسكر الحداثيين»، راضيا عن الأسلمة.. وانتقل الصراع من اختلاف حول تأويل الشريعة والنص القرآنى، وثوابت الدين.. إلى اختلاف حول تأويل فصول من الدستور.
غير أن ما يهمنا فى هذه المعارك هو التلاعب بالمفردات والدلالات وما ينجم عنها من نتائج إذ تغدو الهبة المنصوص عليها فى النص القانونى فى نظر مطلقى مشروع الصندوق، زكاة، والحال أن أحكام الهبة تختلف عن أحكام الزكاة، ويتحول رافض تأسيس هذا الصندوق فى متخيل بعضهم، إلى منكر لفريضة من فرائض الإسلام بل هو محارب لله ورسوله، لاسيما ونحن فى «العشر الأواخر بقدسيتها» ومن هنا وجب شن الحرب عليه أسوة بما فعله أبو بكر الصديق. أما من سيقدم زكاته «فسيحتسب ذلك فى ميزان حسناته» وفق «الإدارة الشرعية» ويغدو الحكم المحلى حجة على الاستقلالية ورفضا للوصاية وتدبيرا.. ويصبح الإصرار على تسمية الصندوق بصندوق الزكاة تعبيرا عن الحرية.
إن ما يسترعى الانتباه فى هذا الخطاب هو إرادة التموقع: تموقع رئيس البلدية سياسيا ودعويا فهو يتدبر شئون الرعية بانتمائه الحزبى وإمامته للجموع ومن ثمة فإنه يعبر عن رؤية للمجتمع تذكرنا بخطاب الخليفة الـ 6 ترسخ التمييز، وتعكس فكرة عبر عنها عدد من قياديى النهضة عندما تحدثوا عن «شعب النهضة» وبناء على هذا التصور تدار الأموال وفق قرارات «العلماء» الذين وجدوا فى «الهيئة الشرعية» ضالتهم، ممنين أنفسهم باستعادة سلطتهم، وتذهب الزكاة إلى أهل الصلاح من المستضعفين إذ لا مجال لأن تصرف أموال الزكاة على «الملاحدة والكفار».
أما معارضو إنشاء مثل هذه الصناديق فإنهم يتموقعون باعتبارهم ممثلى المدنية والحداثة والدستور.. وما دام الطرف الأول قد بدأ بشن الهجوم والإعلان عن سلطته فإن على الطرف الثانى أن يرد الفعل من موقع الدفاع وحسب شروط المقاومة وكأنه لا مجال لابتكار استراتيجيات أخرى للدفاع عن التصورات والرؤى والقيم.
لا ينفصل الجدال حول صندوق الزكاة فى رأينا، عن معركة صناديق الانتخابات التى انطلقت مبكرا وبخطاب إسلامى معلن ولكن لا يجب أن تحجب صناديق الزكاة وصناديق الانتخابات عنا الرؤية: صناديق الموتى فى مسار الجائحة.. فما ضر لو اتفقنا على أولوية التصدى للفقر والبطالة والجوع والمرض.. وتمت التعبئة على قاعدة المواطنة المسئولة والعمل التطوعى والوطنية وكان الخطاب بمفردات ترسخ ثقافة المواطنة وتتعالى على أطر الطبقة والعنصر، واللون والجنس، والدين.. ولا هم له سوى التصدى للفساد، والإثراء غير المشروع، والتلاعب بالقانون، والإفلات من العقاب.